مشروع قانون الاحزاب نعي لحرية التنظيم/محمدالكوري ولد العربي .
اطلعت على ” مشروع القانون”، المتعلق بتعديل بعض أحكام الأمر القانوني رقم ٩١/٠٢٤ الصادر بتاريخ ٢٥ يوليو ١٩٩١ المعدل ، المتعلق بالأحزاب السياسية. و برغم ما يراه فيه من صاغ مشروع هذا القانون من ” إصلاحات جوهرية” ، فإن حقيقة أمره أن الوزارة بلغت حدا من الوضوح بحيث لم تسمح بأي اختلاف في قراءاة المشروع و لا في مراميه؛ إلى درجة أنه يمكن تلخيص الهدف منه بجملة واحدة: الحكومة الموريتانية تنهي العمل السياسي بالتعددية الحزبية.
من المعروف لدى المختصين و حتى العوام أن التعددية الحزبية في بلادنا ، منذ مؤتمر لابول،كانت تطورا ضمن سياق دولي اقتضاه انهيار المعسكر الشيوعي ١٩٨٩، و تفرد الولايات المتحدة الأمريكية و محورها الأطلسي بمصير العالم … و المشهود أيضا أن تلك الأحزاب التي نشأت في بلادنا بموجب ذلك السياق المفروض دوليا لم تكن أبنية سياسية حداثية و إنما تعمد النظام العسكري يومها خلق كيانات هجينة لا هي أحزاب لها رؤى و أفكار و مشاريع مجتمع، و لا هي قبائل مصحوبة بقيمها التاريخية و لا هي أعراق تسعى وراء أمجادها، حقا أو باطلا. و هكذا كان هذا التهجين مسؤولا عن جميع تفاصيل فشل الحياة الحزبية و قاد إلى موت الأحزاب عند لحظة تأسيسها، استجابة لغاية السلطة في منع أي تطور للحياة الحزبية لحساب بعث الفاعليات القبلية و تحكم أقلية أوليغارشية ذات أفق ضيق. فظلت تلك الأحزاب الهجينة برغم تشوهها التأسيسي تتعرض من جانب الوزارة الوصية لحرب على مستويين: الأول إفراغها من نخبها و المثقفين و مطاردة أصحاب الخلفيات الإديولوجية فيها عبر الترغيب بالتعيين و الترهيب بالسجون و التجويع بالحرمان من منافع الدولة بهدف تدجينهم و في نهاية المطاف تجريدهم من المصداقية و التأثير على الرأي العام… بينما كان الوجه الآخر من الحرب يتمثل في نفخ الروح في الأطر القبلية أو الكوادر الإديولوجية التي تعود من أحزابها و أفكارها الحداثية إلى العمل القبلي و المحلي، بوصف هذه العودة و ” التوبة” من الماضي السياسي أمرا لازما للتوظيف و التعيين و الترقية و الاستفادة من الصفقات العمومية. كذلك لم تكف السلطات عن استهداف الأنوية الصلبة للأحزاب عبر تفجيرها من داخلها حتى باتت حياة أي حزب و استمرار وجوده مرهون بالانتظام في المربع الذي تحدده له وزارة الداخلية برعاية عناصرها داخل كل “حظيرة حزبية”. و أشفعت هذه الإجراءات المناهضة للحزبية الحقيقية بالتمييع المتعمد للأحزاب؛ بحيث أن كل شخص مهما كان مستواه التعليمي و مستواه العقلي بوسعه تسلم وصل حزب سياسي من وزارة الداخلية، في غياب أي آلية قضائية أو إدارية تحسم النزاعات الحزبية التي تفتعلها وزارة الداخلية في تنفيذ رغبتها لتحجيم دور الأحزاب و الحد من تأثيرها المجتمعي. و كم شهدنا حزبا منقسما على نفسه يمضي دهرا بين الطرف ( ا) و الطرف (ب)!!
هكذا تبقي السلطات المتنازعين في حالة خصام، و كل منهم مهيض الجناح يتودد سرا لوزير الداخلية لعله يحظى برضاه فيسلمه شرعية الحطام الحزبي. و بالمحصلة النهائية يتحلل كثير من منستبي الحزب محل الخصام، و يقدم كل طرف ولاء الطاعة و عربون الخدمة للنظام، فيما تتبخر طاقاته الشبابية و تتلوث سمعته السياسية و الانتخابية لدى الرأي العام ، فينحل أخيرا في الوعاء السياسي الجامع للقبائل و شتى الأخلاط، الذي يدعونه: حزب الدولة!
أمام هذا الواقع السياسي البائس، لم يكن أمام الإنسان الموريتاني – الذي تحاصره متاعب الحياة من كل جانب، سوى تصديق وهم العمل السياسي ، حتى و إن كان بشرط أن يكون متطابقا مع الدور المرسوم له من قبل وزارة الداخلية تحت رقابة عناصرها الموثوقين في كل تجمع حزبي و كل جمعية ثقافية و كل تعاونية نسوية… إلى أن وصلنا لحالة الشلل الشامل في الأحزاب و الجمعيات و النوادي … فأصبح كل عنوان من هذه العناوين هو في ذات الوقت أداة ارتزاق مادي و وسيلة تبليغ عن أنفاس الآخرين: تبليغ الجميع عن الجميع!!
و من الغريب أن وزارة الداخلية ، التي هي المسؤولة عما آلت إليه الحياة الحزبية من شلل و تفاهة، تطالع العموم اليوم، تحت عنوان الإصلاحات الجوهرية، بمشروع قانون ينعي الحياة السياسية الحزبية المفتوحة في موريتانيا. فلم تكتف الوزارة بالسيطرة النظرية و العملية على الحياة الحزبية لصالح الجماعة الحاكمة ، و إنما تجاوزت ذلك إلى وضع تشريع يمنع الموريتانيين من الآن فصاعدا ، في ظل النظام القائم، من تأسيس الأحزاب السياسية. لا يبدو أن الوزارة ، من الأساس، لها خبرة أو اهتمام ، أصلا، بأسس إنشاء الأحزاب. فلا ذكر في “مشروع إصلاحاتها الجوهرية ” لأي شرط حول الأفكار و لا للبرماج و لا لمشاريع المجتمع و لا لرؤى التحديث، إنما يهمها حشد خمسة آلاف منتسب بأي صورة كانت، و هو أمر عديم القيمة بالمعنى السياسي. فالظاهر أن وزارة الداخلية تنطلق من واقع الأشخاص الذين يمسكون بالسلطة هذه الأيام، و أما الآخرون بالنسبة لها فلا شأن لهم و لا حق لهم في شأن البلاد. إن وزارة الداخلية، بهذا التصور، تقول لمن يرغبون في العمل السياسي لا سبيل لكم إلا بالانخراط ، و عيا و دورا، في المنظومة الوظيفية السياسية لوزارة الداخلية! إذ يعرف الذين صاغوا مشروع القانون أن أي شخص أو مجموعة أشخاص، في الظروف الراهنة للموريتانيين، اقتصاديا و اجتماعيا، ، لن يتمكنوا من الاستجابة للشروط التي وضعتها وزارة الداخلية لتأسيس الأحزاب السياسية؛، اللهم إذا كانوا ممسكين بالسلطة أو جزءا من رجال وزارة الداخلية العاملين في الحقل السياسي، لتحقيق مهمة سياسية أو انتخابية لمن يتحكمون في دواليب السلطة. إن لدى المواطنين الموريتانيين أكثر من دافع للتساؤل عن أسباب مصدر هؤلاء الأشخاص ‘ الذين صاغوا مشروع هذا القانون- من أين لهم هذا الشعور بالأمان و هذه الثقة بالمستقبل !
إن الأكيد أن من صاغوه لا ينظرون إلى أبعد من ظروفهم الراهنة ، و أنهم مهمومون بقطع الطريق أمام أية فرصة سياسية لأصحاب المشاريع الحداثية-، الذين استهلكوا تاريخهم في توليد الأفكار و الرؤى- و قطع الطريق في وجه شخصيات داخل النظام الحالي يحتمل انشقاقها عن الوعاء السياسي للنظام و خوض المنافسة ضد أصحاب مشروع قانون منع الأحزاب! لكن كان جديرا بهؤلاء ، حتى وهم يضيقون على الموريتانيين حياتهم السياسية إلى جانب معاناتهم الاقتصادية، أن يستحضروا تلك الفترة التي سيكونون فيها خارج السلطة، و لسوف يلاقون فيها عنتا شديدا بما جنوا على أنفسهم! لقد سبقهم إلى وضع المقاسات الشخصية سياسيون موريتانيون، فخاطوا السن القانونية للترشح للرئاسة على مقاسهم و مصالحهم اللحظية، ثم وضع آخرون مقاسا آخر في منع الترشح خارج الأحزاب، و ها هو الجميع وقع في الحفرة التي حفروها لغيرهم حسب رغبتهم، في زمن معين، و مصلحة آنية. لقد كانت المعالجة الموضوعية و الصحيحة لشلل الحياة الحزبية و الثقافية تكمن في رفع وزارة الداخلية يدها عن تلغيم الأحزاب السياسية و تحريف للجمعيات الثقافية عن أهدافها التوعوية، و تكمن أيضا في السماح للموريتانيين بالتعبير عن آرائهم و أفكارهم و مشاريعهم المجتمعية دون تضييق و لا تدخل و لا تقييد لحياة الأحزاب ، و دون الانتقام من المعارضين الديموقراطيين السلميين للأنظمة ، و عدم حرمانهم من حقوقهم في العمل و الترقية و التعيين في مرافق و مؤسسات دولتهم. إن إجبار الموريتانيين- بسن قوانين التضييق على ممارسة السياسة، أو بدواعي الخوف على المصالح- على الانتماء للأوعية السياسية الهجينة للأنظمة لن يكون مفيدا لا للأنظمة و لا للبلاد. إنه لا يمكن لأي برلمان يزعم تمثيل الشعب أن يصادق على قانون يمنع حرية التعبير و حق الانتظام المكتسبين. و حدهم الأشخاص الذين لا يتمتعون إلا بنصف وعي أو شرطة سياسية من سيجرؤون على المصادقة على مشروع القانون المقدم من قبل الحكومة.و إذا صادق البرلمان على مشروع هذا القانون، فقد صادق على العودة بالبلاد إلى حقبة ١٩٦٤، و نظام الحزب الواحد…
محمدالكوري ولدالعربي