حتى يسمو العدل وتكون محكمة عدل / يعقوب ولد السيف
حين أوصت لجنة التحقيق البرلماني فى جزء من تقريرها بتعهد السلطات القضائية للنظر في المخالفات التي سجلتها مبينة للنصوص واجبة التطبيق، بل وأحيانا مواد بعينها من تلك النصوص، ترتب على تلك التوصيات تعهد محاكم القضاء العدلي.
ومؤكد أن نقاش النواب لجزء التقرير المرتب لتعهيد المحكمة السياسية “محكمة العدل السامية “سيكون أول خطوة تعقب التشكيل المنتظر لهذه الأخيرة بداية دورة إبريل الحالة؛
الطبيعي والحال كذلك أن لا يكون أي من أعضاء لجنة التحقيق ضمن التشكلة المنتظرة للمحكمة، لأن ذلك سيعنى أنهم سيتولون بأنفسهم -على ما فيه من جمع بين هيئة التحقيق وسلطة الحكم -إنفاذ توصياتهم.
الطبيعي أنه كما عد نقاش القضايا الداخلة فى اختصاص محكمة العدل السامية مانعا من عضوية المحكمة حسب رأي الخبراء الأربعة الذي اعتمدته الجمعية الوطنية، وأخرت بناء عليه عرض ومناقشة جوانب التقرير المرتبة لتعهيد محكمة العدل السامية لحين انتخاب قضاتها، مماهية فى توجهها ذلك بين الجلسة المخصصة لقراءة ونقاش تقرير لجنة التحقيق، مع جلسة النقاش والتصويت المتعلقة بالاتهام التى لا يسمح لقضاة محكمة العدل السامية ولا أخلافهم المشاركة فيها (المادة 20).
كل المشمولين فى الملف مثلوا أمام اللجنة وتم استجوابهم من طرف أعضائها. أولئك الأعضاء ناقشوا وبإسهاب كامل مشتملات تقريرهم؛ حين الصياغة وخلال كامل مرحلة الإعداد، ما يرتب بمنطق رأي الخبراء الأربعة امتناع العضوية على أولئك الأعضاء.
القانون النظامي 2008 -021، المعدل، المتعلق بمحكمة العدل السامية، حساس للغاية اتجاه طرفية قضاة المحكمة؛ لذلك نص فى (المادة 7) منه على رد قضاة المحكمة لنفس أسباب الرد الواردة فى قانون الإجراءات الجنائية.
فى قانون الإجراءات تنص (المادة 603 /ف5) على جواز رد أي قاض يكون:” قد نظر القضية المطروحة كقاض أو كان محكما أو محاميا فيها أو أدلى بأقواله كشاهد على وقائع فى النزاع “. وأكثر من ذلك طالب القانون النظامي للمحكمة من من القضاة علم في نفسه مبررا للعزل غير ما نص عليه في مادة الإجراءات الجنائية أن يلتمس السماح له بعزل نفسه (المادة 9)
ومؤكد أن تقرير لجنة التحقيق البرلمانية –على أقل تقدير-فى حكم شهادة بالقول والكتابة على وقائع ستعرض على جهة الحكم فى وجاهة التهمة.
عموما فى وجود 148 نائبا من غير أعضاء اللجنة ما يغنى عن اختيار أي من الأعضاء التسعة للجنة، وفوق ذلك فإن الاستئثار بعضوية اللجنة وبعدها المحكمة يحمل تجاوزا في حق بقية النواب كما يناقض التمثيلية المقرة والمنشودة في نصوص النظام الداخلي بين الكتل البرلمانية على اعتبار أنها تكون مضمونة داخل الكتل نفسها.
التغاضي عن تلك الحقيقة سيعقبه لا محالة خرق آخر للقانون النظامي للمحكمة؛ ذلك أن أول تشكلة للمحكمة لن تنتخب لباقي المأمورية النيابية لكونها ستنظر -لا محالة-في التهمة التي سيوجهها البرلمان للمشمولين في الملفات التي تم حجبها عن النقاش آنفا وتقرر حينها اختصاص المحكمة بشأنها.
إن نظر محكمة العدل السامية للتهمة وفى حالة إدانة المتهمين سيرتب تولى تشكلة مغايرة للنظر في طعن المدانين، فقد كان المجلس الدستوري في قراره 2007-027 /إ.م، بتاريخ 14 سبتمبر2007، قد اعتبر أن “مركز المدانين من محكمة العدل السامية لا يمكن أن يكون أقل من مركز عتاة المجرمين المدانين في جرائم القصاص والحدود وغيرها الذين يمكن لهم من إمكانية الطعن بالاستئناف والنقض …. فمن باب المساواة، على الأقل، أن يتمتع المحاكمون أمام محكمة العدل السامية بحق الطعن بالنقض على الأقل، فمن أجل ضمان حرية الأفراد وحقوقهم لا بد أن يفتح لهم الباب بأن تنظر محكمة أخرى قضيتهم ”
ورتب المجلس من ثم على عدم منحهم حق الطعن بالنقض على الأقل عدم دستورية (المادة 35) من مقترح القانون رقم 2008-021 التي كانت تجعل “قرارات محكمة العدل السامية غير قابلة للطعن”، ما دفع إلى مراجعتها لتستقر صياغتها على النحو التالي:” لا تقبل قرارات محكمة العدل السامية أي طعن غير طلب الرجوع الذي يقدم خلال شهرين من تسلم قرار المحكمة في شكل مذكرة مفصلة تودع لدى كتابة ضبط المحكمة ولا يكون لهذا الطعن أثر توقيفي، وتبت فيه المحكمة بتشكلة مغايرة”
إن استجابة تعديل (المادة 35) حينها لما وجه به قرار المجلس الدستوري وفر لمن يحاكمون أمام محكمة العدل السامية الحق في نظر قضيتهم من تشكيلتين مختلفتين من خلال “طلب الرجوع”.
لكن “طلب الرجوع” الذي ورد في هذه المادة هو في الواقع أقرب للطعن بالاستئناف منه للطعن بالنقض؛ فهو هنا عمليا ليس طعنا استثنائيا معلقا على توافر الشروط المنصوص عليها في (المادة 569 إجراءات جنائية) التي اشترطت لتأتي التماس إعادة النظر:” في القرارات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا أو تلك التي صدرت عن محاكم الاستئناف إذا حازت قوة الشيء المقضي به وكانت تقضى بالإدانة في جناية أو جنحة:
1-عندما تقدم مستندات بعد الحكم بالإدانة في جناية قتل يترتب عليها قيام أدلة كافية على وجود المجني عليه المزعوم قتله على قيد الحياة؛
2-عندما يصدر قرار أو حكم جديد يدين لنفس الواقعة متهما آخر بعد الإدانة السابقة من أجل جناية أو جنحة بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، والتناقض الحاصل بينهما يدل على براءة أحد المحكوم عليهما؛
3-عندما يدان من أجل شهادة الزور أحد الشهود الذين شهدوا ضد المحكوم عليه، وكانت شهادته سببا في الإدانة؛
4-عندما تظهر أو تكتشف واقعة أو تقدم وثائق كانت مجهولة وقت الحكم ويكون من طبيعة كل منهما أن يثبت براءة المحكوم عليه.”، إنه حق تلقائي في الطعن في أي حكم تصدره محكمة العدل السامية.
ففي صيغة (المادة 35) من القانون 2008-021 تبت في طلب الرجوع ” المحكمة بتشكلة مغايرة”، ما يعني أن أي تشكلة لمحكمة العدل السامية يطعن في قرارها يتم انتخاب تشكيلة جديدة بديلة عنها (قضاة وأخلافا)، وترتيبا على ذلك فتح الباب من جديد لمرافعات جديدة.
وحيث لم يجد المجلس الدستوري بحسب قراره 2021-003 الصادر بتاريخ 08 دجمبر 2021 فى تعديل القانون النظامي 2008-021 الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية ما يمس حقوق المحاكمين، فمعنى ذلك أن استبدال صيغة (المادة 35) قبل التعديل التي تنص على: “وتبت فيه المحكمة بتشكلة مغايرة” بعبارة: “وتبت فيه المحكمة طبقا لقانون الإجراءات الجنائية” الواردة في (المادة 35 /جديدة) لا يغير فى المعنى الخاص لالتماس إعادة النظر كحق للمتهمين فى نظر قضاياهم من أكثر من جهة قضائية لا يتحقق مع إعادة طرح القضية على نفس التشكلة ، ولا بد له والحال كذلك من انتخاب تشكلة مغايرة للتي أصدرت الإدانة.
الظاهر من الإصرار على عضوية أعضاء لجنة التحقيق البرلماني في تشكلة محكمة العدل السامية أن كل ذلك الجهد لا يعقل أن يستهدف أقل من تولى رئاسة المؤسسة الدستورية بما يستتبعه من مكاسب ولبقية المأمورية النيابية على الأقل، ما يعنى أن مقتضيات (المادة 35) ستكون المحطة القادمة في انتهاك النصوص المتعلقة بمحكمة العدل السامية التي يبدو أنها ما وجدت إلا لتداس.