ذكرياتي مع المرحوم بإذن الله محمد يحظيه ولد أبريد الليل/ حماده ولد اصوينع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما. “يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي” الفجر الآية 28 “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” الأعراف185 “كلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ” الرحمن 27
بفاجغة وفاة المثقف والمفكر والفيلسوف الكبير والشهير المرحوم بإذن الله محمد يحظيه ولد ابريد الليل، فإنني أرفع تعازي القلبية الصادقة إلى أسرته وذويه وأصدقائه وأحبابه ورفاقه في النضال وكل الشعب الموريتاني والشعب العربي وكل أحرار العالم .
وأنتهز هذه الفرصة للحديث عن بعض مواقفه المشرفة في بناء الوطن وعن بعض جهوده الفكرية والسياسية التي لا تقدر بثمن. مع التذكير في هذا الصدد بأن الكلام عن هذا القائد لا تفي كلماته بالإفصاح عن ما يتراكم في القلب ،حيث تبقى اللغة عاجزة عن التعبير عنه.
وعليه ، أتساءل هل يجب إذا أن نلجأ الي الرمزية والصور والهمس بالحديث لكي يبقى إرثه في الأذهان، علما أنني لست متخصصا في الأدب بمنطقه وبيانه.
إن المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل هو بمثابة النور حينما يسدل الليل سدوله المظلمة على الشعب الموريتاني فيكون لهم المرحوم بمثابة النور الذي ينشر الضوء من حوله.
فعند ما دخلت بلادنا في بعض مشاكلها وأوضاعها الصعبة و ظروفها الحالكة كان بفكره النير وحكمته العريقة وبصيرته النافذة ملجأ يلجأ إليه ونبراسا يهتدى بضوئه لتجاوز تلك التحديات.
ومن هنا لا أرى غضاضة في ذكر بيت الشاعر أبو فراس الحمداني :
“سيذكرني قومي إذا جد جدهم # وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر”
لقد عرفت المرحوم غفر الله له ووسع في قبره شهر أكتوبر 1964 م عن طريق رفيق دربه البارز والصادق في اقواله وافعاله “ممد ولد أحمد” عندما كانا طالبين في الثانوية الوطنية. وذلك إثر مؤتمر الشباب الموريتاني الذي عقد في مكان قريب من الرئاسة أي الأرشيف حاليا حيث تم فيه انتخاب الوزير السابق المصطفى ولد الشيخ محمدو رئيسا للشباب.
وبعد ذلك ذهب المرحوم بإذن الله إلى فرنسا لمتابعة الدراسة حيث أسس في فرنسا مجلة ناطقة بالفرنسية بعنوان : “موريتانيا العربية” الهدف منها عنده التعريف بموريتانيا و الصحراء الكبرى وعروبتهما، وذلك في فترة كانت الجهود تبذل على قدم وساق لتجعل من موريتانيا دولة إفريقية فرانكفونية خالصة، لا تعدو أن تكون همزة وصل بين العالمين العربي والإفريقي وذلك لإبعادها عن مجالها العربي.
وبعد عودته إلى أرض الوطن كلفه الرئيس السابق المرحوم المختار ولد داداه بتحرير جريدة الشعب القسم الفرنسي. بينما تولى محمدو ولد المختار ولد حامدون القسم العربي رحمهما الله. وكانا في مكاتب أرضية تحت منصة شرق الجمعية الوطنية الحالية، لمدة تقارب ست سنوات. كان ذلك في نظري سجنا خفيا له، حتى لا يكون له وقت لممارسة مهامه الفكرية والسياسية وقد تردٌدت عليه في هذا المكتب خلال هذه السنوات بصورة دائمة. فكان لي في ذلك الوقت بمثابة الأستاذ والمربي وكل ما زرته كنت أتزود منه بفكرة جديدة أو توجيه لقراءة كتاب.
بعد ذلك كان عمل مع الوزير وأمين عام اللجنة الدائمة لحزب الشعب وقتها المرحوم “صال عبد العزيز”. وقد حصلت في هذه الأثناء ندوة ثقافية لمناقشة اللغة والثقافة العربيتين تحت رئاسة الرئيس السابق المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله حيث كان وزير الدولة للاقتصاد يومها. وقد دافع فيها المرحوم محمد يحظيه ولد ابريد الليل عن مطالب تتعلق بالدفاع عن اللغة العربية وتدريسها وترسيمها، وذلك ضدًا للمجموعة التي تضم وزراء من بينهم “بارو عبد الله، وبَا مامادو آمادو” واستمر النقاش ما يزيد على ست ساعات وفي آخر الندوة وللأمانة التاريخية أصبح بجانبه “محمدا ولد باباه واحمد ولد سيد باب” ينتصران له.
أنبه الإخوة القراء أن هذا المرحوم باذن الله كان موسوعة علمية وداهية فكرية. لقد كان على اطلاع واسع بعصر التنوير في اوربا ومفكريه وفلاسفته و مفكري الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر مثل دانتوه وسبيسبير وهيكو، كما أن له اهتمام واسع بالحضارة العربية الإسلامية في الأندلس و بالتاريخ العربي عموما من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي. كما أن له إلمام واسع بالثورة البلشفية عام 1917 م وبمفكريها لينين وستالين وتروتسكي وغيرهم وايضا له إلمام كبير بالثورة الصينية التي قادها ماوو تسي تونغ ورفاقه البالغين 12 شخص الذين حرروا الصين من الاستعمار الغربي والتي بدأت من عام 1924 م إلى انتصارها 1949 م. وقد ألف عن هذه الثورة كتابا سماه المارد الصيني كما أن له كتابا بعنوان موريتانيا وأزواد وكلاهما باللغة العربية.
وقد خلف مئات من المقالات والبحوث التي لو جمعت لخرجت في عدة كتب وقد تناولت مواضيع مختلفة كالسياسة وعلم الاجتماع والتاريخ والفلسفة. وهنا أدعو الشباب والمثقفين وطلاب الجامعات لقراءة ما كتبه , فستينير لهم الطريق وسيتعلموا منه الكثير الكثير.. وألفت الانتباه إلى أن مقالاته ومذكراته محفوظة وإثارتها ستخلق نقاشا فكريا وحوارا معرفيا بين أهل الفكر في بلادنا والوطن العربي والإفريقي.كما أن فيها دروسا هامة عن الجانب المأساوي التراجيدي لحياة هذا البطل الوطني الكبير.
فقد دخل السجن في عهد الرئيس السابق محمد خون ولد هيدالة وحكم عليه مع مجموعة من رفاقه منهم ممد ولد أحمد ومحمد ولد حمادي رحمه الله والتراد ولد سيدي وعمار ولد المامي وباب الغوث ومحمد عبد الله ولد الطالب أحمد بالسجن عشر سنوات قضوا منها أكثر من عامين ونصف قبل أن يطلق سراحهم في تغيير 1984.
كما حكم عليه الرئيس السابق معاوية ولد الطايع بالسجن 12 سنة مع بعض هؤلاء ك ممد ولد أحمد و الداه ولد الحسين و محمدي ولد باباه و يحي ولد عالي و لحافظ ولد لجكاني و الداه ولد الحسين قضوا منها قرابة ثلاث سنوات في السجن وفصل في نفس الوقت ما يزيد على 300 شخص من مختلف قطاعات الجيش بحجة انهم ينتمون الى التيار البعثي. بالتالي يمكن القول أنه قضى في حياته قرابة عشر سنوات بين السجن والتوقيف والمحاكمة وأصناف كثيرة من التعذيب.
ومجموعة جديدة .. قضوا منها قرابة ثلاث سنوات في السجن وفصل في نفس الوقت ما يزيد على 300 شخص من مختلف قطاعات الجيش بحجة انهم ينتمون الى التيار البعثي. بالتالي يمكن القول أنه قضى في حياته قرابة عشر سنوات بين السجن والتوقيف والمحاكمة وأصناف كثيرة من التعذيب.
فقد سجن في تيشيت وحولوه للعلاج إلى لعيون في سنة 1983 م حيث زرته في سجن لعيون المبني بالحجارة عام 1944 م وقضيت معه قرابة ساعة كاملة. ووجدت معه في هذا السجن قرابة 15 شابا من الشباب الناصري كانوا قد أدخلوا في السجن في ذلك الوقت في انتفاضة ضد الرئيس محمد خونة ولد هيدالة. و بعد الإطاحة بنظام ولد هيدالة خرجوا من السجن بعفو من ولد الطايع، التقيت بهم وقد وجدت بعضهم متأثرين بفكر المرحوم السياسي وسيرته الأخلاقية وتأثروا بأخلاقه وسلوكه وتأمله في الأشياء.
للمناسبة فهذا المفكر العبقري رحمه الله تعالى، له أخلاق عالية و التفكير الصادق فهو يحب العدالة والمساواة بين الناس كما كان يحب المستضعفين ويواسيهم ولا يتحدث لأحد بألفاظ جارحة ولو كان المجتمع يعتبرها عادية. فدفاعه عن العبودية والرق هو دفاع إنساني وأنه يجب في نظره أن يكون مهمة جميع أطياف المجتمع دون استثناء. كما أنه يُعوِد جُلسائه أن يسمونهم بالعرب السٌمر، كما دافع عن المنمين والفلاحين والعمال اليدويين دفاعا مستميتا وكان يعتمد في ذلك على الاستقراء التاريخي خصوصا أنه اعتمد في هذا الجانب على كل من ابن خلدون واوجست كونت في تحليلهم للصراع الطبقي المتمثل في التناقضات والجدل العلمي.
ويرى أن ضعف العرب وتخلفهم بين المجتمعات اليوم راجع إلى تفرقهم وأن وحدتهم هي الضمان لتقدمهم، والرد المناسب على تجزئتهم يكون أولا بالتحرر و الوحدة السياسية و الاشتراكية لتكون لبنة للوحدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهذه بعض منقولاته في كتابه موريتانيا و أزواد ص 14 :
فقد قال بعد سرد قصة : “إنها القصة نفسها التي تتكرر دائما حيث الساسة الجادون بطبعهم أو تكوينهم أو أفكارهم يطغى عليهم صوت الآخرين لأنه وسط الضوضاء لا يسمع إلا صوت الذين يصرخون .”
ومن أقواله أيضا في نفس الكتاب :
“للديمقراطية ضمانتان الأولى هي وجود طبقة سياسية واعية قد راجعت نفسها وتكيفت وطوت نهائيا صفحة العنف اللفظي والجسدي، أما الثانية فهي شعب مستنير اختار وتذوق طعم الأساليب الهادئة ويمنح ثقته نهائيا للطبقة السياسية العاملة وأطروحاتها لأنها جديرة بذلك وهو أمر يختلف عن التعلق بزعيم سياسي. فالتعلق بزعيم سياسي لا يحسم أمرا ولا يعنى ثقة الشعب في الطبقة السياسية، فتعلق الجماهير وثقتها في أدولف هتلر أيام جمهورية ويمار لم يكن مؤشرا على ثقتها في الطبقة السياسية هناك وإنما العكس هو الصحيح، وهنا بالذات ما حل من الدمار في تلك الجمهورية المثالية” نفس المرجع السابق ص 13
ومن أفكاره : “أن الأفراد يؤثرون غير أن تأثيرهم متباين يمكن أن يقع بعد قرن ولا يتعلق إلا بأجيال مستقبلية فرضيةّ، كما يمكن أن يهدف إلى إنقاذ الأحياء وحينئذ يأخذ لا محالة مظاهر الجنون ومعاناة واقع من يحفر نفقا تحت جبال آدرار”. نفس المرجع ص 4
ويقول أيضا : “من يقذف بكل ما يجيش في نفسه من جيد أو رديء لم يخلق للسياسة فضلا عن ذلك هل كل ما ليس محرما هو مباح.” نفس المرجع ص 9
إن المفكر لديه إلمام بتاريخ غرب افريقيا و دول الطوق التي تحيط بموريتانيا فله خبرة في تاريخها السياسي والاجتماعي، ويقدر النضال التحرري الذي قام به الحاج عمر الفوتي ضد الاستعمار الفرنسي وبعض العلماء الأفارقة.
تحدث المفكر أيضا في كتابه موريتانيا وأزواد ص 9 عن الشيخ أمادو مؤسس امبراطورية مآسينا الفلانية، .. حيث يقول “…كان الشيخ رجلا ورعا مستقيما زاهدا وكان يسوس دولته بواسطة مجلس علمي من ستين فقيها يحيطون به بصفة دائمة ويقررون كل شيء وكانوا متشددين حرفيا يقلدون نظام المدينة المنورة أيام الخلفاء الأولين، بالنسبة لهم الامور بسيطة اما محرمة واما مباحة. للشيخ أمادو اضافة الى ما ذكرنا ميزة أخرى هي الذكاء، كان يعرف أن الامور ليست بالبساطة التي يراها الفقهاء ولكي يفتح أعينهم أمر يوما بأعداد مائدة من اللحم اضاف إليها لحم الضب والجراد وحشرات اخرى ودعاهم للاكل فقالوا إنهم لا يأكلون مثل هذه اللحوم، فقال الشيخ إن الشرع لا يحرم أكلها فقالوا نعم ذلك، فقال إذا هناك أشياء لا يحرمها الشرع ومع ذلك يتعين علينا تركها وهذا ما علينا أخذه في الحسبان مستقبلا.”
اردت ان ابين مدى عمق أفكار المفكر محمد يحظيه في دراسة الأشياء واستنباطه لها حيث يأتي بالعمق عن تحاليل تعتمد استدلالات بمقولات لعلماء في التاريخ وعلم الاجتماع. ولذلك حظيت كتاباته باهتمام المثقفين والقراء والدبلوماسيين علي حد سواء. فهو من المناضلين المفكرين القلائل.
كما عُرف المرحوم يحظيه بتقديره للزعيم بوياكي ولد عابدين رحمه الله رئيس حزب النهضة الملقب “بالزعيم الذي يقول الحق ولو على نفسه” وكنت قد زرت بوياكي مع المرحوم ومع ممد ولد أحمد عدة مرات في البيت و في مقر جريدة الاخبار — التي أسسها بوياكي في لكصر في مكان لا زلت أعرفه — والتي أعقبت حل حزب النهضة واستقالة بوياكي من وزارة النقل والبريد والمواصلات التي ما فتئ أن أغلقتها الحكومة لانتقادها للاخيرة. بوياكي ولد عابدين الذي التقيته في 1958 بمناسبة انعقاد مؤتمر حزب النهضة في مدينة لعيون.
لم يكن المرحوم محمد يحظيه قط متبنيا لأي فكر قبلي أو جهوي او عرقي قط وانما كان ذو توجه شمولي وطني خالص
واقترح أن يسمي عليه بعض معالم مدينة انواكشوط لتخليده مثلا شارع المطار الجديد أو المتحف الوطني او كلية الآداب …