مؤتمر ألاگ 1958.. في سبيل الدولة الموريتانية الموحدة / سيدي أحمد ولد الأمير
لذلك لم يكن صدفة أن تستضيف هذه المنطقة سنة 1958 مؤتمر ألاگ الشهير الذي بدأ التفكير فيه والدعوة له منذ يناير من نفس السنة. كرس مؤتمر ألاگ نشأة الدولة الموريتانية الحديثة على أساس الوحدة التي جسدها التفاهم بين المكونات والتعاضد بين الشركاء، وتم ذلك في جو كانت التحديات الكبرى تعصف وتشتد والمعوقات الكثيرة تبرق وترعد. لم يكن من الصدفة اختيار مدينة ألاگ لاستقطاب خمسة آلاف موريتاني يتوقون إلى بناء وضع أسس دولتهم الوليدة في جو إقليمي غير موات وفي إطار دولي غير ملائم. كان اختيار منطقة البراكنة ومدينة ألاگ بشكل خاص في تلك السنة أمرا موفقا.
ما إن أنهى ساكنة ألاگ صوم رمضان سنة 1377هـ حتى بدأوا يستعدون لاستقبال الوفود الموريتانية، فلم يكن بين نهاية رمضان تلك السنة وبداية وصول المؤتمِرين إلا أسبوع واحد. فكأن مدينة ألاگ وساكنتها، بل وساكنة منطقة البراكنة، كتب عليهم في ذلك الشهر أن يعيشوا أجواء الأعياد الدينية والوطنية.
كان السيد معروف ولد الشيخ عبد الله أولَ من بادر بقبول استضافة مدينته ألاگ لهذه الفعالية وقد وافقت اللجنة التحضيرية على ذلك، بل وتكفلت مجموعته القبلية إديچبَه بجميع تكاليف الاستقبال والضيافة. وقد أبلت بلاء حسنا في هذا المسعى، وتقاسمت بطونها تلك المهمة مهيئين الظروف المادية والتنظيمية لضيوفهم الذين كان مقررا ألا يزيدوا على الألف على أكثر تقدير، لكن الجميع فوجئ بأزيد من خمسة آلاف ضيف من جميع أطراف موريتانيا، بل ومن الصحراء الغربية. وقد كان التنظيم والضيافة ناجحين رغم كثرة الضيوف، وكما قال يحيى ولد عبدي في مذكراته فإن منطقة الترارزة -على سبيل المثال- كان يتوقع أن يأتي منها ثلاثمائة مندوب بينما جاء منها ألفا شخص، وكان من المتوقع ألا يتجاوز جميع الحضور الألف فبلغوا أزيد من خمسة آلاف.
وقد خلد الشاعر والمؤرخ المختار ولد حامدٌ، الذي كان من الحاضرين، بعض مشاهداته للنواحي التنظيمية، حيث اقتضى التنظيم أن يكون الضيوف في خيام بنيت بشكل دائري يشبه حرف “القاف”؛ بحيث يكون الجميع في مشهد واحد، ومن المعلوم أن حرف “القاف” يرمز للميسم الخاص بقبيلة إديچبَه، يقول ابن حامدٌ:
يا دارةً ذَرَّ فيها سعدُ أخبيَّةِ ***** وذَرَّ سعدُ سُعُودٍ بل وجَوزَاءُ
كالأرضِ دَارَ بها “قَافٌ” فسَوَّرهَا ***** أو كالسماءِ إذا ما صَحَّ إصْحاءُ
كأنما هالةٌ دارتْ على قمرٍ ***** أو قُلِّدَت عَسْجدًا في الجيد أسماءُ
أو كالبُحيْرة قد دار الهضابُ بها ***** أو كالجزيرةِ مُحتفًّا بها الماءُ
والعَسْجَدِيَّةُ تعلوها جوانبُها ***** والشِّربُ دار وبينَ الشَّرب صهباءُ
فيها لمن جاء إيواءٌ وثم له ***** إنْ جاع أو يَظْمَأْ إشباعٌ وإرواءُ
شكرا لِمَعْشَر “قَافٍ” دوَّرُوهُ فهمْ ***** للضيف والكتب قَرَّاءٌ وقُرَّاءُ
ومن الواضح أنه فيما بين الجمعة 2 إلى الاثنين 5 مايو 1958 كانت مدينة ألاگ على موعد مع التاريخ؛ حيث عقد بها المؤتمر الشهير الذي يعتبر إطار ميلاد الدولة الموريتانية الجديدة.
كان مخاضُ الدولة الموريتانية في نهاية خمسينيات القرن الماضي مخاضًا عسيرا، وكادت تولد ولادة قيصرية بل كادت توؤَد وهي في طور التشكل. كان المشهد السياسي الموريتاني في تلك الفترة متسما بالتعددية المتنافرة، فلم يكن هنالك حزب سَلَمًا لحزب بل كانوا شركاءَ متشاكسين. وكان الوضع الإقليمي غير مبشر جنوبا وغير مريح شمالا، فالاتحاد السنغالي المالي (الفيدرالية المالية) الناشئ يرغب في الاستحواذ على الضفة الموريتانية وساكنتها، والمملكة المغربية تطالب بضم موريتانيا وتعتبرها جزءا منها، وحرب التحرير ضد المستعمر الفرنسي على أشدها في الجزائر، وغينيا كوناكري تخرج من ربقة الاستعمار مصوتة بلا للبقاء ضمن المجموعة الفرنسية، وقد رفعت باريس يدَها عنها ولم تترك وراءها لا فتيلا ولا قطميرا عقابا ونكاية، بل تركت غينيا تواجه تحديات بناء الدولة دون أية بنية تحتية. ولم تكن علاقة موريتانيا مع فرنسا، وهي الدولة المستعمرة التي بدأت تنأى بنفسها ظاهرا عن مستعمراتها وتخطط لخلق استراتيجية تبعية من نوع جديد، بالعلاقة الموثوق بها. وقد جاء مؤتمر ألاگ في هذا السياق المتدافع وفي هذا الجو المضطرب، جاء ليواجه امتحانا صعبا وتحديا جسيما وعقبات تنوء بالعصبة أولي القوة، جاء ليعطي إجابات صعبة للكثير من الأسئلة الشائكة.
موريتانيا نهاية الخمسيات.. المشهد السياسي المتشرذم
يمكن أن نطلق على سنة 1958 عام التحول السياسي الكبير في موريتانيا، غير أنه تحول رافقه وعايشه جو مزدحم بالمشاريع المتعددة والنوازع السياسية المتضاربة. لم يكن الإنسان الموريتاني يعرف في مجال السياسة والحكم -حتى ذلك التاريخ- غيرَ النظام الأميري القائم على العصبية القبلية، أو الإدارة الاستعمارية الفرنسية التي ظلت بعيدة عن هموم الناس وعن مصالحهم، فالدولة الحديثة ومنطقها وتنظيمها وبناؤها أمور بعيدة عن مدارك وتجارب سكان هذه الصحراء الشنقيطية.
كان هنالك ثلاثة مشاريع سياسية على الأقل: فبعض النخب السياسية، وخصوصا غالبية شيوخ القبائل وأبرز موظفي الإدارة الفرنسية، يرون ضرورة البقاء في إطار المجموعة الفرنسية. بينما كان من بين النخبة، وخاصة ذوي التوجهات العروبية الناشئة، من يرى ضرورة الانضمام للمغرب، وتكريس الروابط المغاربية، والاحتماء بالبعد العربي حفاظا على هوية أغلبية السكان. وهناك جزء ثالث من نخبة البلد السياسية يرى التوجه جنوبا نحو دول غرب إفريقيا، والانصهار في التكتلات الإقليمية والحزبية الإفريقية، فموريتانيا ذات عمق إفريقي، وعلاقتها بجيرانها في السنغال وفي مالي علاقة كرستها الجغرافيا وعززها التاريخ. كانت هذه أبرز المشاريع السياسية في نهاية خمسينيات القرن الماضي وهي مشاريع ستحدد حقيقة موريتانيا وسترسم هويتها، مشاريع تتقاسمها النخب السياسية الموريتانية في نهايات خمسينيات القرن الماضي أو أعلى الأصح تُقسم النخبَ السياسيةَ الموريتانيةَ.
كانت الخريطة الحزبية في ذلك الوقت مزيجا من التوجهات المتضاربة والمشاريع السياسية المتنافرة، فمن بين أبرز لاعبي المشهد الحزبي يوجد حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني (Union Progressiste de Mauritanie) المتأسس سنة 1947م في مدينة روصو والقريب من الإدارة الفرنسية، وقد ضم مكتبه التنفيذي الأول عددا من الأعضاء من بينهم سيدي المختار ولد يحيى انجاي رئيسا، والأمير أحمد ولد الداه، وأمادو ديادي صمبه جوب، وأحمد سالم ولد هيبه، وصال كليدور، ومحمد عبد الله ولد الحسن، ويوسف كويتا، ومحمد ولد مولود ولد داداه، وبونا مختار. وقد منح الحزب رئاستَه الشرفيةَ للجنرال ديغول تأكيدا على احتمائه بالمظلة الفرنسية.
وكان الاتحاد التقدمي يحظى بدعم أغلب شيوخ القبائل وأعيان المجتمع التقليدي؛ لذلك نجده في إطار استعداداته للمنازلة السياسية الأولي في تاريخه، وخلال استحقاقات يونيو 1951م، لاختيار النائب الذي سيمثل موريتانيا في البرلمان الفرنسي، يعقد اجتماعا هاما في مدينة كيفه، حضره عدد من الشخصيات أبرزهم الأمراء وشيوخ القبائل الموريتانية من أمثال: الأمير عبد الرحمن ولد اسويد أحمد، والأمير أحمد ولد الداه، والأمير محمد فال ولد عمير، وبابه ولد الغوث، ومحمد الراظي ولد محمد محمود، واچه ولد محمد محمود. كما جاء المختار ولد داداه من فرنسا للمشاركة في هذه الفعالية الحاسمة، ووقع الاختيار علي رئيس الحزب سيدي المختار ولد يحيى انجاي.
وعموما تقوم نظرة الاتحاد التقدمي السياسية على التمسك بالانتقال التدريجي إلى الاستقلال وعدم فتح جبهات توتر مع الجوار الإفريقي أو مع الإدارة الفرنسية، فضلا عن حساسية هذا الحزب تجاه المطالب المغربية بموريتانيا، وهي سياسية يبدو أنه سينجح في جر الطيف السياسي المناوئ له إلى الأخذ بها وإلى الانصهار معه في تبنيها.
أما اللاعب الحزبي الثاني فهو حزب الوئام (حزب الوفاق) (Parti de d’Entente) المتأسس هو الآخر بمدينة روصو 1950م تحت زعامة السياسي والنائب أحمدو حرمه ولد ببانه، ومعه نخبة من القيادات الشابة من مختلف الجهات والعرقيات الموريتانية. وكان حزب الوئام ندا وغريما للاتحاد التقدمي الموريتاني، كما كان للنائب أحمدو ولد حرمه كاريزما خاصة في المشهد السياسي الموريتاني في نهاية خمسينات القرن الماضي، وقد عزز تلك الكاريزما طموحُه المتوثب وجرأته النافذة واللذان جعلاه في كثير من الأحيان في مواجهة مع شيوخ القبائل ورموز المجتمع التقليدي؛ حيث كانوا يرون في حضور الزعيم ولد حرمه القوي وطموحه تهديدا لمصالحهم؛ لذلك وفقوا سدا منيعا أمامه في حزب الاتحاد التقدمي. وفضلا عن ذلك ظلت الإدارة الفرنسية تنظر إلى ولد حرمه بكثير من الريبة والتخوف خصوصا أنه من أبرز المطالبين بالاستقلال التام والقطيعة مع فرنسا.
وهناك لاعب ثالث وهو رابطة الشباب الموريتاني (Association de la Jeunesse Mauritanienne): التي تأسست هي الأخرى بمدينة روصو سنة 1955م. وقد تولى رئاستها يعقوب ولد أبو مدين وكان نائبه كوني علي باري، والكاتب العام أحمد بابا ولد أحمد مسكه. وأغلب مؤسسي الرابطة وأعضائها من الشباب الذين انفصلوا عن الاتحاد التقدمي، آخذين عليه مهادنته للإدارة الفرنسية. وقد أعلنت الرابطة في البداية أنها ليست حزبا سياسيا بل تنظيما ذا توجه ثقافي، وهو ما ثبت عكسه عند أول وهلة حيث قدمت مرشحها محمد ولد الشيخ ولد جدو لانتخابات 1956م.
وكانت مفردات خطاب الرابطة تقدمية في ذلك التاريخ حيث طرحت فكرة مناهضة الاستعمار والتعجيل برحيل فرنسا، وتحرير المرأة، والتخلص من الرق، فعكست بذلك توجها تقدميا مبكرا في الخريطة الحزبية الموريتانية.
وثمت لاعب رابع لا يقل أهمية عن سابقيه وهو كتلة غورغل الديمقراطية (Bloc Démocratique du Gorgol) المتأسسة سنة 1957م بزعامة ممدو صنبولي با، ويحسب هذا الحزب على مشروع الفيدرالية المالية. ويتحسس أعضاء هذا الحزب، وهم من أبناء الضفة، من التوجه المغاربي والعربي عند إخوتهم الموريتانيين من غير الضفة؛ لما قد يعنيه ذلك من تهميشهم والمساس بهويتهم الإفريقية.
هذه هي أبرز التشكيلات السياسية التي دعيت للمشاركة في مؤتمر ألاگ بالإضافة إلى الشيوخ التقليديين والحساسيات القبلية، وقد لبى الجميع الدعوة. وكان الهدف من المؤتمر توحيد هذه التشكيلات الأربع، وهو مطلب كان صعبا لتوجس البعض وتهيب بعض آخرين، ولاختلاف المشاريع وتعدد الرؤى.
السياق الإقليمي.. والحسابات الدقيقة
أولا: الموقف المغربي من موريتانيا:
لم تكد التشكيلات السياسية الموريتانية وخصوصا حزبيْ الاتحاد التقدمي والوئام يتفقان بداية يناير 1958 على إنشاء لجنة عهد إليها بتنسيق وحدة الحزبين حتى قرر عضوان في حزب الوئام يمثلانه في اللجنة الحزبية المشتركة ترك موريتانيا متوجهيْن نحو المغرب. وهما الوزيران الدكتور محمد المختار ولد اباه والدي ولد سيدي بابه، وملتحقيْن بالزعيم أحمدو ولد حرمه، والأمير محمد فال ولد عمير وابن عمه الشيخ أحمدو ولد سيدي، فضلا عن عناصر شبابية التحقت بالجميع في الرباط كمحمد أحمد ولد التقي وماء العينين ولد النور وغيرهم من الشباب، معززين بذلك موقف المغرب تجاه موريتانيا.
وكان لانتقال هذه النخبة نحو المغرب وقع شديد على المشهد السياسي الموريتاني، حيث توقف التفكير في توحيد التشكيلات الحزبية، أو على الأقل تم ترحيله إلى أجل لاحق؛ ولم يعد الحديث عنه إلا مع ربيع سنة 1958م؛ حيث تم التفكير في عقد مؤتمر ألاگ المنوط بتحقيق أمور من أبرزها وحدة الجبهة الداخلية الموريتانية. ومن يقرأ خطاب المختار ولد داداه الافتتاحي لهذا المؤتمر، سيلاحظ أن نصفه كان مخصصا للرد على الطرح المغربي حينذاك، وهو ما يعني الحضور البارز لقضية موقف المغرب من موريتانيا في المؤتمر وجلساته ونقاشاته.
ثانيا: الفيدرالية المالية وتهديد الوجود الموريتاني
وبنفس التخوف من الأطماع المغربية في موريتانيا في نهاية خمسينيات القرن الماضي كان التخوف من الأطماع السنغالية والمالية في موريتانيا.
ظلت النخبة السياسية وخصوصا داخل حزب الاتحاد التقدمي تميل إلى التنسيق مع دول غرب إفريقيا تنسيقا سياسيا وماليا واقتصاديا باستمرار، وتعزز هذا التنسيق بشكل أكبر منذ أن أعلنت المملكة المغربية عن موقفها من موريتانيا. لكن ذلك التنسيق ظل بعيدا من الوحدة، بل إن أبرز شخصية في الاتحاد التقدمي وهو المختار ولد داداه ما فتئ يطرح بإلحاح فكرته القائلة إن موريتانيا ينبغي أن تظل همزة وصل بين الشمال العربي والجنوب الإفريقي، وهو ما يعني بقاء موريتانيا رابطا يصل بين شمال أفريقيا وغربها، مع حفاظها على كينونتها وهويتها الخاصة.
إذن بقاء موريتانيا ووجودها في هذا السياق، وعند تلك النخبة السياسية، يعني لعبها دور الواصلة التي يكرسها لها موقعها الجغرافي وتقاليدها وثنائيتها العرقية. ولو اندمجت وانصهرت بشكل وحدوي مع أحد هذين القطبين فذلك يعني القضاء على هويتها.
ثالثا: المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية والمشروع الفرنسي
وكما كانت نشأة الدولة الموريتانية في نهاية الخمسينات محل تجاذب من طرف الجيران في الشمال وفي الجنوب، فإن فكرة فرنسا بإنشاء ما بات يعرف بـ”المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية” (l’Organisation Commune des Régions Sahariennes) شكل تهديدا قويا كاد يجهض مشروع الدولة الموريتانية.
قامت فرنسا الحريصة على محاصرة الثورة الجزائرية التي اندلعت في فاتح نوفمبر 1954، بإنشاء المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية OCRS بعد تمريرها على الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ الفرنسيين. وكانت هذه المنظمة في ظاهرها ذات دوافع اقتصادية؛ حيث تسعى فرنسا إلى وضع اليد على الطاقة المكتشفة في الجنوب الجزائري (الغاز والبترول) فضلا عن المناجم الكثيرة في النيجر والتشاد ومالي وموريتانيا، وهي الدول التي كانت فرنسا تريدها أن تكون جزءا من هذا المشروع الصحراوي.
والواقع أن موريتانيا، رغم ضعفها في ذلك الوقت وتبعيتها لفرنسا، تحفظت على الانضمام لـ”المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية”، وكان موقف نائب موريتانيا في الجمعية الوطنية الفرنسية سيدي المختار ولد يحيى انجاي واضحا في الخصوص، فقد عبر عنه في أكثر من مرة ملمحا تارة ومصرحا تارة أخرى إلى أن قلة سكان موريتانيا (حدود 600 ألف نسمة)، وهشاشة وضعها الاقتصادي، أمور من بين أخرى تجعل انضمامها لهذا التنظيم الصحراوي ضارا غير نافع، وأنه يكفيها أن تنسق مع المنظمة في الشؤون الاقتصادي دون أن تكون جزءا منها. في حين كانت الرغبة الفرنسية جامحة في أن تنضم موريتانيا لـ”المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية”، ولا أدل على ذلك من محاضر نقاشات الجمعية الوطنية ومحاضر نقاشات مجلس الشيوخ الفرنسيين والتي اطلعنا على بعضها.
ويوضح المختار ولد داداه في مذكراته كيف أن الإدارة الفرنسية في ذلك الوقت كانت تستعمل كل الوسائل مع موريتانيا بما فيها الترغيب والترهيب: فبالنسبة للترغيب كان المسؤولون الفرنسيون يقولون للموريتانيين إن الانضمام إلى هذه المنظمة سيزيد عطف الحكومة الفرنسية عليهم وذلك أمر تحتاجه موريتانيا كثيرا لما تمدها به فرنسا من المساعدات في جميع الميادين، فبانضمامنا إلى هذا المولود الجديد ستحصل مباشرة على استثمارات ضخمة، هي في أمس الحاجة إليها. وبخصوص الترهيب كثيرا ما قال الوالي الفرنسي لموريتانيا ألفريد موراغ لسيدي المختار ولد يحيى انجاي وللمختار ولد داداه وغيرهما إن الوسيلة الوحيدة التي ستمكن موريتانيا من الإفلات من المطالبة المغربية بها هو أن تنضم إلى لـ”المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية”، فلو ظلت موريتانيا رافضة لذلك الانضمام فإن فرنسا ستترك بينها وبين المغرب وهو ما يعني ألا خيار -حسب الفرنسيين- أمام موريتانيا سوى التسليم ودخول هذا التنظيم.
وأقل ما يقال عن هذا الوضع الإقليمي المتميز بالدقة والتدافع، وتعدد المشاريع واختلافها، أنه يشكل سياقا غير ملائم لإنشاء الدولة الموريتانية، فلا الجيران يريدون ذلك، ولا فرنسا تريده بالشكل المناسب، بل تسعى لتجييره لمصالحها الحيوية في جنوب الجزائر والصحراء الكبرى.
مؤتمر ألاگ وسؤال الوحدة
لعله من حسن حظ المؤتمرين في ألاگ وجود هذا السياق المتدافع داخليا، والمتسم بكثرة الحسابات الإقليمية خارجيا؛ إذ كان على الجميع أن يعي الخطر ويحاول تجنبه وهو تجنب لم يكن ليحصل إلا بتوحيد الجبهة الداخلية، وعلى هذا الأساس عرفت مدينة ألاگ الصياغات الأولية للمشروع الداعي إلى تكوين الدولة الموريتانية المستقلة الموحدة. وقد تمثل في توحيد الجبهة الداخلية حيث تم الإعلان خلال هذه المؤتمر الذي حضرته جميع الوجوه السياسية في ذلك الوقت عن انصهار التشكيلات السياسية القائمة في بنية سياسية واحدة.
لقد انبثق عن المؤتمر صهر حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني وحزب الوئام الموريتاني وبعد ذلك كتلة غورغل في حزب واحد جديد هو: “حزب التجمع الموريتاني”. أما رابطة الشباب الموريتاني، فلم تكن مع الوحدة، وستشهد سنة 1958 انقساما إلى توجهين أحدهما سيكون نواة حزب النهضة.
لقد كان مؤتمر ألاگ -كما يقول الباحث د سيدي أعمر ولد شيخنا- مؤتمر التأسيس للكيان الموريتاني، ففيه رسمت الملامح العامة للشخصية الوطنية، وحددت التوجهات الإستراتيجية الأساسية لهذا الكيان طبعا وفق المعطيات الزمانية والمكانية حينها -كما عكست ذلك نتائج وتوصيات المؤتمر التي عبرت عن انشغالات المؤتمِرین وحسمت في قضايا ملحة كانت بحاجة للحسم.
وكان من أهم قرارات المؤتمر:
– صهر التشكيلات السياسية القائمة في حزب موحد هو: “حزب التجمع الموريتاني”.
– الدفاع عن وحدة التراب الوطني الموريتاني ضد كافة التهديدات أيا كان مصدرها.
– بقاء موريتانيا جزءا من مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية مع الاستقلال الداخلي التام، والرغبة في نيل الاستقلال الوطني.
– ربط علاقات حسنة مع حزب التجمع الإفريقي والتجمع الديمقراطي الإفريقي بغية تحقيق عمل متكامل مع هاتين التشكيلتين المتنازعتين على ألا تنحاز موريتانيا إلى أي منهما دون الأخرى.
– التحفظ تجاه إنشاء حكومة عليا أو برلمان أعلى في داكار.
– رفض الانضمام السياسي أو الإداري إلى “المنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية”، مع إمكانية عقد اتفاقيات اقتصادية معها، على أن يتم التفاوض على تلك الاتفاقيات بحرية تامة.
هذا فضلا توصيات تتعلق بحيثيات فنية داخلية مثل التقشف والضرائب والخدمة العسكرية وتعميم اللغة العربية.
وقد وجه المؤتمر نداء خاصا الى فرنسا يطلب منها فيه وضع حد للحرب في الجزائر.
وقد كانت توصيات مؤتمر ألاگ والتي كان من بينها الموقف الرافض لانضمام موريتانيا للمنظمة المشتركة للمناطق الصحراوية محرجا إن لم نقل مغضبا للوالي الفرنسي ألبير موراغ، الذي كان قد أعلن لرؤسائه في باريس مسبقا ودون تبصُّر منه “أن المؤتمر لن يتمخض عن أي مفاجأة”، فكذَّب مضمون قرارات المؤتمر تنبؤه، ورأى فيها “بذور قومية عربية خطيرة على مستقبل نفوذ فرنسا في موريتانيا وباقي مجموعة غرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية”.
خاتمة:
كان مؤتمر ألاگ علامة فارقة في التطور السياسي الموريتاني؛ حيث أسس لقيام الدولة الموريتانية وذلك في سياق من التشرذم الداخلي والتدافع الإقليمي وإمساك فرنسا لمعظم الخيوط لمزيد من التحكم في مستعمراتها وهي تتجه نحو الاستقلال. كما كرس مؤتمر ألاگ التوليفة السياسية التي انبثقت عنها زعامة المختار ولد داداه ومحورية شخصيته على المستوى الوطني حزبيا وحكوميا وفي مقابل تراجع النفوذ السياسي لسيدي المختار ولد يحيى انجاي.
والواقع أن التحديات القوية التي واجهت مؤتمر ألاگ، والمتعلقة بنشأة الدولة الموريتانية، كانت ضاغطة، وقد استطاع المؤتمرون أن يفككوا بعضها وأن يرحلوا بعضا آخر، والنجاح المؤكد الذي استطاعوا تحقيقه هو جعل الوحدة الوطنية مقدمة لكل مشروع دولتي، وهو أمر لا خلاف في وجاهته.
من موقع موريتانيا الآن