مؤتمر ألاك 1958…بقلم يحي ولد عبدي (الصفحة 74)
من بدايات التأسيس: مؤتمر الاك 25 مايو 1958 ردا علي مبادرة الوكالة الموريتانية للأنباء بإحياء ذكرى مؤتمرالاك التاسيسي، تخليدا للثامن والعشرين نوفنبر المجيد، في ذكراه الستين، وتثمينا لكل الجهودالرامية الي توطيد الوحدة الوطنية المقدسة؛ لا يسعني إلا أن ادلي بهذه الشهادة حول الاجواء الاستثنائية التي اكتنفت ذلكم الحدث التاريخي بامتياز ، حيث اجتمع لأول مرة في التاريخ المعاصر للبلد ممثلون عن كافة مكونات هذا الشعب الابي، الغني بتنوعه العرقي والثقافي.
وكان هذا المؤتمر،و الحق يقال، نقطة انطلاق الوحدة الموريتانية وحلقة اولي في مسلسل لم شملها. ولا بد ان اشيد هنا بعلو همة وتبصر وحكمة المرحوم المختار ولد داداه لاصراره علي الدعوة لهذا الحدث وتنظيمه في تلك الاجواء التقليدية الاصيلة والمريحة في نفس الوقت.
واعترافا له بفضله تجدر الإشارة هنا أنه تبني هذه المنهجية التوافقية كلما دعت الحاجة الي التغلب علي بعض الأزمات الظرفية وتخفيف حدة التجاذبات، فيدعو الي الحوار والركون الي جو التصالح والتماسك والتضامن علي كافة الاصعدة كما فعل في مؤتمر الطاولة المستديرة 25 دجنبر 1961 في نواكشوط.
ففي المناسبة الأولي( مؤتمر الاك)، كانت الساحة السياسية الموريتانية تقتصر علي حزبي الوئام المعارض والاتحاد التقدمي الحاكم، بالإضافة إلي رابطة الشباب التي قررت مقاطعة مؤتمر الاك رغم كون بعض عناصرها، ولي الشرف ان كنت منهم، ساهموا في تاطير وفوده، كما شاركوا من وراء الكواليس في بلورة التوجهات الوطنية حول النقاط الأساسية لجدول الأعمال.
وعكسا لما كان ينتظر، فقد توصل الحزبان الي الاتفاق التام والاندماج في حزب واحد: حزب التجمع الموريتاني.
اما بمناسبة الطاولة المستديرة فكانت هنالك اربعة احزاب:
*حزب التجمع
*وحزب النهضة
* والاتحاد الوطني
*والاتحاد الإشتراكي لمسلمي موريتانيا
فتم التوافق علي ادماج هذه الأحزاب الاربعة لتكوين حزب الشعب الموريتاني.
ورجوعا الي مؤتمر الاك، اري ان حزب الوئام وقادته الحاضرين لم يوفوا حقهم من الاعتراف لهم بالجميل علي التفاني في صنع هذه الانطلاقة التاريخية بتخطيهم مواقف قيادتهم التاريخية التي لجأت الي المغرب وكانت تدعو للانضمام إلى المملكة المغربية.
وعلي كل حال فانهم من وجهة نظري يستحقون ثناءنا و اعجابنا مثل ما استحقه الرئيس المختار ولد داداه و رفاقه. واخص بالذكر من قادة الوئام الحاضرين الزعيم محمد فال ولد البناني الذي كان علي راسهم.
وتجدر الإشارة هنا الي ان من بين المهام التي كلفتني بها رابطة الشباب، توجيه ممثلي لبراكنه ما امكن، وتحديدا بالسعي الي ان يكون الجواب علي السؤال الخاص بمنظمة المناطق المتاخمة للصحراء (OCRS) ب”لا”! فحاولت حضور جلسة المداولات التي عقدها وفد لبراكنه ليلا في فضاء مفتوح. الا انني لم اتمكن من الالتحاق بالرؤساء التقليديين الذين جلسوا علي كراسي وسط الجمع الغفير وبقي منهم ثلاثة علي الارض هم الاصغر سنا وهم الذين يكتبون الجواب ويقرؤون السؤال للجميع ويتحاور المسنون منهم حتي يبرز جواب متفق عليه فيمليه مسنهم السيد الشيخ احمد ابي المعالي علي الثلاثة الصغار فيكتبونه.
وتانيت خارج الجماعة حتي سمعت الجواب علي السؤال الخاص بمنظمة المناطق المتاخمة للصحراء وقد جاء علي النحو التالي:”لبراكنه تجيب علي هذا السؤال بما تجيب به الترارزه!”، فصرخت بان هذا الجواب لا ينبغي! فنهض شيخ من سائر الجمع ونادي باسم “لبات” وكرر النداء حتي استعد لبات فقال له:” هذا شاب من اهلنا في الاك يصرخ بان هذا الجواب غير ملائم “.
فاجاب لبات “اعملوا له طريقا حتي يصلنا”! ففعلوا ونهض لبات ولد احمياده من كرسيه ليستقبلني قائلا: “من انت؟” فاجبته “انا احد شبابكم ادعي يحيى ولد عبدي “فصار يداعبني:” هؤلاء انتم اهل لعريفات؟ “فقلث” “نعم” فقال: “هل تعلمون ان عليكم برورنا؟” قلت “نعم ولكن عليكم ان تسألونا عن بعض الامور الطارئة، لنشرحها لكم”
فاجاب: “نعم، وما هي هذه المشكلة؟” فوضحت له ان هذا السؤال تريد فرنسا من وراءه خلق مستعمرة كبيرة تتكون من موريتانيا ومالي والنيجر واتشاد الخ… وتكون جزءا لا يتجزأ من فرنسا مثل ما كانت الجزائر، حيث يصبح الاستقلال مستحيلا ونحن في رابطة الشباب وضعنا في مقدمة طموحنا لموريتانيا ان تستقل. فنادي باسم الشيخ ابي المعالي قائلا: “هذا ولد افلان اراد ان يطلعنا علي معني هذه النقطة وادعوك ان تستقبله فدعاني وسلم علي واعدت له الشرح فاملي بدون تردد علي زملائه: “جوابنا” “لا” علي هذه النقطة!” فحمدت الله واستسمحت.
وقد اعجبني كثيرا هذا التجاوب الكريم من الرؤساء التقليديين للبراكنه، وخصوصا المتحدثين باسمهم لبات ولد احمياده والشيخ احمد ابي المعالي ولد الشيخ احمد حضرامي، ومدي رزانتهما. ولعمري ان تصرفهما هذا يدل علي حبهما لهذا الوطن وتشجيعهما لمقاومة الشباب الموريتاني وتشوقهما للتحرر من ربقة الاستعمار. كما انوه ايضا بموقف زملائهما الحاضرين الذين لم يبدوا اي اعتراض علي الجواب القاطع ب “لا” علي ذالكم السؤال. واري لزاما علي ان اذكر – شهادة للتاريخ – اسماء بعض هؤلاء الرموز الذين ابدوا اخلاصا منقطع النظير، وهم السادة: محمد ولد احمد عبد وكان مام انجاك وسيدي محمد ولد احمدو وسيدي محمد ولد اوداع ومحمد ولد حمادي واهميمد ولد بوبكر وفال ولد عبدي وجبريل باه والمصطفي ولد الشيخ عبد الله وعبد الله ولد كبد ومحمد ولد محمد عبد الله وسيد آمين ولد حيبلتي وعبدالله ولد عبد القادر والشيخ ولد لمرابط…..وقد تخونني الذاكرة في ذكر آخرين لا بد انهم كانوا حاضرين.
ولا اخفي اني فوجئت كثيرا بهذا الموقف الوطني النبيل من رؤساء تقليديين تطبعهم في الظاهر علاقة تبعية مع المستعمر الفرنسي. وبعد امعان النظر تبين لي ان هؤلاء الرؤساء انما عبروا بجدارة عن روح وطنية موجودة لدى غالبية امثالهم علي عموم التراب الوطني. ولا ادل علي ذلك مما شاهدته من اقبال لافت للموريتانيين علي صناديق الاقتراع في الاستفتاء (الديكولي) للتصويت ب”لا”! وحتي قبل ذلك في حملاتنا التعبوية ضد المستعمر والتي كانت تلقي تجاوبا وقبولا منقطعي النظير لدي الشخصيات التقليدية وعموم الشعب الموريتاني. وقد لمست هذا الحس الوطني في جميع الولايات التي كان لي الشرف ان خدمت فيها مثل آدرار وتكانت ولبراكنه والترارزه وانشيري واقليم نواكشوط، وكذلك الولايات الاخري التي انتدبت اليها عدة مرات في مهام سياسية!
كان ذالكم ما احتفظت به ذاكرتي عن مؤتمر الاك (المحطة الرئيسية في المسيرة الوطنية).
وكانت تلكم حقبة من تاريخ الوطن سيرها جيل من المواطنين المخلصين، يحسب لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ولهم اجر الاجتهاد. واري ان الوطن اليوم بحاجة ماسة الي من يبحثون له عن شبه اجماع وطني حول اساسيات البناء الوطني والعيش المشترك. واني من اعماق القلب لاتمني بنية صادقة علي القائمين علي حكم البلد وعلي النخب السياسية وجميع المواطنين المهتمين بالشأن العام ان يتوجهوا نحو مؤتمرات جامعة يتحاور فيها الموريتانيون – كل الموريتانيين- حول مصير وطنهم وان يتبادلو من العطاء والتنازل ما يستحقه عليهم الوطن ومستقبله. ادام الله علينا وعلي وطننا الخير والعافية والاستقرار في كنف الإسلام وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم باحسان الي يوم الدين.
المصدر: مجلة الشعب