الدستور الفرنسي والأحكام السلطانية..مقارنة فقهية دستورية / د.أنس أحمد ديْدي

نحاول تقديم مقارنة متواضعة عن وثيقتين دستوريتين من أهم الوثائق الدستورية، حيث تتصدر إحداهما، الوثائق الدستورية السلطانية لحقبة هامة من حقب الحضارة الإسلامية، التي تصدرت سيادة العالم لفترة زمنية معتبرة، بينما تربع الدستور الفرنسي على عرش الحضارة المعاصرة، المتأثرة بالثورة الفرنسية. ونقدم صورة عن نقاط إتلاف أو اتفاق الوثيقتين (أولا) ومسالك الاختلاف بينهما (ثانيا).

من نقاط إتلاف أو اتفاق الوثيقتين، من حيث الجملة (أولا):

كلا الكتابين ألف ليكون أحكاما وقواعد دستورية نافذة، كما قال الماوردي (ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته؛ ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه؛ توخيا للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحريا للنصفة في أخذه وعطائه … أما بعد: فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليُصدِر التدبيرَ عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني؛ لترتيب أحكام الولايات على نسق متناسب الأقسام، متشاكل الأحكام. والذي تضمنه هذا الكتاب من الأحكام السلطانية والولايات الدينية عشرون بابا؛)، وكما في تصدير الدستور الفرنسي (وبناء على موافقة الشعب الفرنسي؛ أصدر رئيس الجمهورية القانون الدستوري الذي ينص على ما يلي:)

– كلاهما ضد تأليه السلطان، من حيث المبدأ، مكرس لمبدأ الوفاء للأمة بحقوقها الثابتة.

– كلاهما منظم للمكاسب لا واهب للحقوق، مكرس لهذا المبدأ الذي يعد الفيصل في باب تأليه الحاكم.

– كلاهما يحيل إلى منظومة دستورية قانونية يستقي منها ويبني عليها في سياقه الحضاري.

 ولتلاحظ معنا تكريس الأحكام السلطانية لمبدأ التصدير الدستوري، وبالمصطلح المعهود، وعبر إصدار رأس الدولة، بالإجراء المتبع اليوم نسبيا، ولتقارن قول الماوردي (ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة،) مع تصدير الدستور الفرنسي (أصدر رئيس الجمهورية القانون الدستوري الذي ينص على ما يلي:).

كلاهما دستور وضعي بشري، وإن كانا يختلفان في مرجعيتهما، المهيمنة على كليهما من حيث المبدأ.

كلاهما خرج من عباءة السلطان أو الرئيس ومال لتكريس هيمنته وتشريع تحكمه في مفاصل الدولة بنصوص دستورية مقررة متفاوتة متباينة المقاصد والأهداف، منسجمة مع المرجعية المهيمنة على الوثيقة من حيث المبدأ، وإن كان كلاهما أيضا صريح في تكريس هيمنة دستورية مشروعة أو مقبولة أو منشودة.

كلاهما أسس على أسس منطقية في باب إرضاء السلطان بما لا يغضب الشعب أو الأمة، ولا يخرج على القواعد المهيمنة من حيث المبدأ، بصرف النظر عن المقصد الباعث، وقبول المخالف، ولك أن تزيد للإمام الماوردي حظه المستحق من إرضاء ربه رضي الله عنا وعنه.

كلاهما كرس حقوقا دستورية وحافظ عليها، مقابل ضياع أخرى أو التفريط فيها.. على تفاوت بينهما في ذلك.

كلاهما تميز في ما ليس للرئيس أو السلطان فيه مصلحة ولا إكراه، أو اعتراض.

كلاهما تأثر بواقعه، فظل شاهدا تاريخيا على الحقبة الحضارية التي ولد فيها.

كلاهما نحى منحى التبرير أو الدسترة أو إضفاء الشرعية من حيث المبدأ على واقع بلده، وحياته الدستورية، ويقدمها على أنها المثال الأسمى.

كلاهما يكرس حق من غلب في سياقه الحضاري، كان أمة وشعبا أو أسرة وملكا.

كما اتفقت الوثيقتان على استخدام مصطلح: الباب مشفوعا برقمه كتابة لاترقيما، مميزا بعنوانه، مثل (الباب الأول: في عقد الإمامة. والباب الثاني: في تقليد الوزارة. والباب الثالث: في تقليد الإمارة على البلاد.) عند الماوردي، مقابل تبويب الدستور الفرنسي (الباب الأول: في السيادة، الباب الثاني: رئيس الجمهورية، الباب الثالث: الحكومة).

كلاهما جعل الباب أكبر عناوينه المفصلة، ثم اختلفا في تسمية فروع الباب، بين المادة والفصل.

اتخاذ كل من الوثيقتين موقفا صريحا من الدين بعد تمييزه عن الأحكام السلطانية والقواعد الدستورية، تصريحا أو إيحاء.

كلا الوثيقتين تجمح للاختصار وإبراز الأحكام السلطانية والقواعد الدستورية من حيث المبدأ، كما صرح به الماوردي (ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا..)، واستبطنه الفرنسي فطبقه أكثر من غيره.

اتحاد موضوعهما، وتصريح العنوان بذلك، كما هو واضح من مصطلح السلطانية عند أبناء القرن الخامس الهجري، ومصطلح الدستور عند أبناء القرن العشرين الميلادي.

كلاهما رمز حضارة يحتفظ بتاريخها عنواناً شاهدا على خصائصها ومميزاتها.

كلاهما كتب باللغة الرسمية للدولة والأمة والشعب، بخلاف دساتير المستعمرات التي ربما كتبت بلغة المستعمر.

كلاهما أسس على منطلقات الشعب وإديولوجيته من حيث المبدأ.

كلاهما جاء ليوضح الحد الفاصل بين الصلاحيات والواجبات والحقوق، والمسؤوليات، حسب ما تمليه الاصطلاحات ومدلولاتها.

اختارت عناوين الوثيقتين مصطلحات مجردة من الخلفية الأديولوجية من حيث المبدأ، (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) و(الدستور الفرنسي).

كلاهما ظل مصدر الاقتباس الدستوري لكل دستور صدر بعده في سياق حضارته على الأقل.

كلاهما كتب من حيث الجملة برصانة علمية وتبويب متميز، من الجهة الشكلية والموضوعية عموما.

كلاهما يهدف إلى تحقيق ما أمكن من إجماع وطني ومصلحة عامة لأمته حسب رؤيته.

كلاهما له حضور معتبر في مقام الاستدلال وتغذية الصراع السياسي في الدول الإسلامية والعربية.

 يتواصل..

اظهر المزيد