الشيخ أحمد طال ولد لمرابط…قاضي الضفة وسفير الإخاء الإسلامي
.
عاش القاضي أحمد طال عمرا قصيرا لم يتجاوز 43 سنة كانت سلسلة عطاء ناضر، لم يطل عمره لكنه اتسع وامتد لكل صنوف الخير فكان دوحة وارفة أغصانها الفقه والتربية والقضاء والأدب والدعوة وحسن الصلة بالله وحسن الأثر في الناس.
فإلى الترجمة:
هكذا هكذا يكون الرجال هكذا الفضل والندى والجلال
نفحات من المكارم بيضا ونضار من الهدى وجمال
فعلى قبره الشريف التحايا يتوالى رحيقها الشلال
يتهادى كأنه نسمات وظلال من الهدى وزلال
السيرة والمسيرة
المرحوم القاضي أحمد طال بن لمرابط من رجالات العلم والقضاء البارزين الذين ذاع صيتهم واشتهر عطاؤهم العلمي والمعرفي لاعلى مستوى مقاطعة روصو ولا على مستوي ولاية الترارزة فحسب، بل وعلي مستوي موريتانيا كلها وحتى الدول الشقيقة المجاورة.
فقد تصدر مشيخة محظرة “أهل لمرابط” المشهورة في منطقة الكبلة وخصوصا علي مستوي شمامه في سن مبكرة، فجعل تعليم القرآن بروايتي ورش وقالون عن نافع وتدريس أهم المتون الفقهية والعربية نصب اعينه وشغله الشاغل ومن ثم تربية أتباعه بالأذكار والأوراد المأثورة حسب منهجية الطريقة الشاذلية التي لا تعطى ولاتلقن إلا لمن استوعب وأتقن العلوم الشرعية وعمل بها. ناهيك بنشر العدل بين الناس وإقامة الحق علي رغم انف الباطل طيلة توليه قضاء منطقة شمامه بأسرها حين كانت مقاطعة روصو ـ آنذاك ـ تمتد من أنجاكو غربا الي لكصيبه شرقا ـ فكانت لاتأخذه في الحق لومة لائم ويصدع بالحق ويحكم به حيثما ظهر له.
ولد القاضي أحمد طال بن لمرابط في بداية العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي وتحديدا سنة 1922 الموافقة لسنة 1340 هجرية. وقد نشأ في رحاب محظرة أسرته المشهورة بتدريس القرآن وعلومه، ونشر العلم وتعميم مختلف فنونه.
تلقي القاضي احمد طال العلوم القرآنية والفقهية والعربية علي والده باب بن لمرابط فحفظ كتاب الله تعالي قبل سن العاشرة مكملا له بدارسة أشهر المتون المتداولة في التجويد والرسم والضبط كنظم ابن بري ومؤلفات احمد بن محمد الحاجي الخ، قبل أن يدرس علي والده المذكور ألفية بن مالك ومختصر خليل وتحفة بن عاصم وديون الستة الشعراء … كما أخذ الطريقة الشاذلية عن والده نقلا عن أسرة أهل باب ولد حمدي المشهورة بالعلم والورع والصلاح إذ كانت محط رحال طلاب العلم ورواد التصوف في هذه المنطقة.
والطريقة الشاذلية تختص من بين الطرق الصوفية بأنها لاتلقن إلا لمن يؤمن علي دينه من الناحية المعرفية فأصبح يعرف فرض عينه وتأكد مرابطه من ذلك كما أسلفنا في المقدمة، ولذلك اشتهر مرابطو هذه الطريقة كعلماء لا كأشياخ ويعرف بلمرابط بدل الشيخ (لمرابط احمد بن العاقل، لمرابط محمذ فال ولد متالي، لمرابط يحظيه ولد عبد الودود، لمرابط باب ولد حمدي …الخ). ومن أسسها خلاف النفس والزهد الباطني في الدنيا ولاتعرف نظام الحلقات فجل أورادها آيات قرآنية وأحاديث مأثورة تؤدي بصورة سرية وتفقد ظاهرة الخلوة.
اخذ القاضي أحمد طال بن لمرابط هذه الطريقة كما أسلفنا عن والده وبعد وفاة هذا الأخير سنة 1357 هجرية، جددها علي العالم الورع لمرابط احمد بن الطلب بن باب بن حمدي ومن ثم اخذ يلقنها للكثير من تلامذته علي الضفتين اليمنى الموريتانية و اليسرى السينغالية، ولا يزال أتباعه يتواردون ـ حتى الآن ـ علي ضريحه بمقبرة تكشكمبا لزيارته والترحم علي روحه وتذكر الآخرة وفق تعاليم السنة النبوية خلال الجمعة الأخيرة من شعبان في كل سنة.
تلك هي الأسس العلمية والروحية التي اشتهر بها المرحوم القاضي احمد طال منذ صغره ونشأ ترعرع في محيطها إلي أن توفي عنه والده وهو لم يبلغ الحلم حينئذ فواصل مشوار التعلم والعلم علي مستوي مجظرته رغم تزامن تلك الفترة مع نشوب الحرب العالمية الثانية التي عاش العالم خلالها سنوات عجاف متتالية أهلكت الحرث والنسل، وعرفت عند أهل المنطقة هنا بسنوات (الهوفه)، فلم يثنه ذلك عن متابعة مسيرته التعليمية رغم الحمل الثقيل الذي ينوء به كمرابط لمحظرة علمية وصوفية وكمعيل لأسرة كبيرة تعودت إعالة أقاربها وجيرانها وتلامذتها صيفا وشتاء شدة ورخاء، رغم شظف العيش آنذاك.
وقد حظي المرحوم أحمد طال بن لمرابط بإعجاب معاصريه من العلماء والأجلاء ممن تعرفوا عليه فبوأه ذلك مكانة مرموقة علي المستويين الاجتماعي والثقافي في المنطقة، فقد عاصر العلامة المختار بن أبلول الحاجي واخذ منه بعض الفنون خصوصا علم النوازل وعلم المنطق والأنساب والسيرة, كما عاصر المرحوم العلامة القاضي محمذن بن محمدفال (اميي) واخذ عنه، كما أخذ عن العلامة، أحمدو ولد احبيب البهناوي، والقاضي الجليل لمام بن اشريف رحمه الله، حيث تدارس معهم بعض المتون المتداولة كلامية الزقاق وتحفة الحكام، وعمليات فاس
ومن مشاهير من عاصروه وتبادل معهم العلم أخذا وعطاء العلامة الورع المختار بن باب بن حمدي الحاجي رحمه الله، والعلامة المتقن القطب بن السالك الحاجي، والعلامة الاديب المفلق احمد و بمب بن الصوفي البهناوي، وغيرهم، ونال من كل هولاء وغيرهم الاعجاب والتقدير.
لم يكن القاضي أحمد طال بن لمرابط متحمسا للمدرسة الفرنسية الاستعمارية آنذاك حيث امتنع عن إرسال أبنائه للتعلم فيها، ومع ذلك كان منفتحا علي العصر ومستوعبا لتطورات التاريخ ومستجدات العلم إلا فيما يمس الثوابت الشرعية التي لا مساومة فيها.
أدي القاضي المرحوم أحمد طال بن لمرابط فريضة الحج في زمن لم يكن الحج فيه سهلا كان ذلك سنة 1951 م في جماعة من الموريتانيين لم تتجاوز عشرين شخصا من بين حجاج افريقية الغربية الفرنسية آنذاك، وكان لوقوع اختيار الوفد الرسمي عليه لإعداد وإلقاء خطاب حجاج غرب إفريقيا أمام ملك السعودية آنذاك (عبد العزيز آل سعود) وما سارت به الركبان من علمه وورعه سببا كبيرا في لفت انتباه المستعمر إليه ومحاولته بعد عودته من الحج تعيينه لتولي قضاء مدينة روصو فرد علي ذلك بامتناع مستميت بل اعرض عنه إعراضا تاما لما يري فيه من الذبح بغير سكين ولم يقبل تولي مهمة القضاء إلا بعد سبع سنوات من ذلك اقتنع خلالها بالخوف من إسناد الأمر إلي من ليس له بأهل ويعم الجور عندئذ والنكوص عن الحق والحكم بغير ما انزل الله.
تولي المرحوم احمد طال بن لمرابط مهمة القضاء فاتح سنة 1958م وسهر علي نشر العدل بين الناس وتنفيذ أحكام الله تعالي رغم انف الباطل وسماسرته من المتسيسين آنذاك أصحاب الوزن في الدوائر الحكومية فلم يأبه بنفوذهم ولا بمحاولاتهم التاثير عليه بكافة المغريات علي حد قول بعض من رثوه في ارجوزة طويلة:
وكان صارما في الحق لايحابي * ينفذه في الأهل والأصحاب
وقد سجل له التاريخ كلمته المشهورة للرئيس المرحوم المختار ولد داداه أمام حشد كبير “رجاؤنا أنكم ـ السيد الرئيس ـ ستمنحون الشريعة المطهرة عناية تتحرر بها من سيطرة القانون والحكام والسياسيين والرؤساء حتي يصبح رجالها ذوي سلطة كاملة يتغلبون بها علي العناصر المعترضة لتقوم عليه الحجة فيما اختل مما أسند إليهم دنيا وأخري”.
وكان شديد التهرب من الرشاوى وكل ما يمت إليها بصله فقد أهدى إليه ذات يوم بعض المتقاضين هدية، فردها عليه بالفور قائلا: لست ممن عهدنا منهم الهدية (علي حد قول خليل وهدية من اعتادها قبل الولاية) والحقيقة إن عندك قضية في محكمتنا وتريد التزلف ألينا بهذه الهدية فلا يشفع لك إلا البينة الواضحة، ولم لم تكن قادما علينا في منزلنا لطلبنا معاقبتك علي هذه المحاولة..
ومنذ توليه القضاء وهو يحاول التخلص منه حيث استقال ثلاث مرات بإلحاح، ولم تقبل استقالته ، كانت آخرتها قبل حجته الأخيرة حيث اتصل بوزير العدل آنذاك وحاول إقناعه بقبول استقالته فاعتذر عن قبولها، إلا انه اسر إلى بعض خاصة أسرته انه لن يعود إلي القضاء بعد عودته من الحج وهو ما وقع.
يقول فضيلة الإمام الشيخ سيد محمد بن إنا إمام الجامع الكبير بروصو حفظه الله انه لقي ذات يوم المرحوم القاضي احمد طال بن لمرابط فسأله عن حاله، فأجابه: “حالي حال من يعاني الحق في زمن الباطل”
ظل المرحوم القاضي أحمد طال ساهرا علي الحق ونشر العدل طيلة توليه القضاء رغم انشغاله في محظرته حتى وفاه الأجل المحتوم.
وهكذا ورغم مشاغله المحظرية وارتباطاته القضائية الجمة وحياته القصيرة فان المرحوم القاضي احمد طال قد خلف تراثا علميا هاما ورصيدا معرفيا واسعا، فهناك مؤلفاته العديدة التي آثر فيها أسلوب النظم والاختصار تيسيرا لطلبة العلم وتحفيزا لهم علي إثراء معارفهم وتعميق مهاراتهم، وهناك مكتبته الكبيرة التي تزخر بالمراجع النادرة التي استوردها من مختلف البلدان العربية خلال رحلاته إلي الحج وفي اطار علاقاته الوسيعة بالعديد من المكتبات العربية وخصوصا علي مستوي بلدان المعرب العربي.
المؤلفات:
ـ شرح مطهرة القلوب للعلامة محمد مولود بن احمد فال (آد) في التصوف.
ـ شرح علي المرشد المعين لابن عاشر في فقه العبادت.
ـ حاشية علي نظم ورقات إمام الحرمين في الأصول لعبد الله بن مختارنا الحاجي.
ـ شرح علي نظم العالم ابن حيمده الغلاوي في التركة.
ـ تلخيص شرح العلامة الرباطي الفاسي علي عمليات فاس في النوازل.
ـ تعليق علي الجزء الأول من الفية بن مالك.
ـ تاليف في العول في باب التركة نظمه العلامة المختار بن باب بن حمدي.
ـ شرح نظم النظائر في متشابه القرآن لأحمد بن محمد الحاجي سماه إرشاد الحائر في حل مشكلات النظائر.
ـ نظم وفيات الأعيان تكملة لنظم العلامة أحمدو بن احبيب.
ـ نظم في العول.
ـ نظم في التوافق والتباين والتماثل في التركة.
ـ نظم في إصطلاح الشاطبية.
ـ نظم لرحلته الي الحج سنة 1951م
ـ نظم في التوسل بسور القرآن حسب ترتيب نزولها.
ـ نظم في التوسل بأولياء المغرب.
ـ نظم في التوسل باولياء بجاية.
المكتبة:
ورث القاضي احمد طال بن لمرابط عن أجداده مكتبة ضخمة اصيلة استطاعوا بفضل هممهم وقوة إرادتهم جمعها في تلك الفترة التي كانت فيها الكتب نادرة جدا ثم المحافظة عليها وصيانتها حيث كان المجتمع بدويا للغاية لا يكاد يقيم أسبوعا في مكان واحد.
الا أنه في فترة المرحوم احمد طال شهدت المكتبة تطورا وازدهارا حيث كانت رحلاته الثلاث إلى الحج فرصة مكنته من اقتناء الكثير والكثير من الكتب النادرة الوجود، كما أن المكانة المتميزة التي كان يحظي بها عند أجلاء وعلماء العصر مكنته من الحصول علي بعض المستنسخات النادرة. فهناك علي سبيل المثال لا حصرا كتاب الذهب الإبريز في تفسير كتاب الله العزيز للشيخ محمد اليدالي بخط احد أحفاد المؤلف يرجع تاريخ نسخة إلي ما يزيد علي مائتي سنة ، وهناك خاتمة التصوف مخطوط قديم لنفس المؤلف، وميسر الجليل علي مختصر خليل للعلامة محنض بابه بن اعبيد الديماني مخطوط أيضا وطرة واحمرار المختار بن بونه علي ألفية بن مالك مخطوط، هذا بالإضافة إلي العديد والعديد من القرآنية والحديثية والفقهية والأدبية المتنوعة كمدونة الإمام مالك وجميع شروح مختصر خليل وكتب الصحاح والتصوف إلي غير ذلك.
والمكتبة موجودة بقرية القاضي أحمد طال بن لمرابط ((ابدنغاي)) الواقعة علي بعد كيلومترين تقريبا من مدينة روصو شرقا علي طريق روصو ـ بوكي
ويقيم علي هذه المكتبة وعلي محظرة الأسرة الآن ولداه السيدان باب طال بن لمرابط، وعبد القادر بن لمرابط جعلهما الله خير خلف لخير سلف آمين.
توفي المرحوم القاضي احمد طال بن لمرابط بقريته (ابدنغاي) بعد أحد عشر يوما فقط من وصوله من الديار المقدسة اثر حجته الثالثة والأخيرة في الليلة الأولى من محرم سنة 1385 موافق 2 مايو 1965، بعد ما عاش أربعة وأربعين سنة فقط نبه إليها العلامة بمب ولد الصوفي البهناوي في قوله من أرجوزة يرثيه بها:
” لعمره بركة وهو مــد * فاستكمل الدارين في ذاك الأمد”
فبالمقارنة مع غزارة علم المرحوم القاضي احمد طال وعمقه الفكري وسعة اطلاعه وحجم دراسته وازدهار محظرة أسرته في عهده ازدهارا مطردا وكثرة من اخذ عنه القرآن وعلوم الشريعة والعربية والطريقة الصوفية الشاذلية من أبناء هذا الوطن ومن الدولة المجاورة مع فترة حياته القصيرة يلاحظ انه نال بركة العمر حقا فقد حقق الكثير وأنجز الجزيل في عمر وجيز تغمده الله برحمته.
وقد حضر جنازته جم غفير من الأقرباء والأهالي والمريدين، وذكر الإمام سيد محمد بن إنا أمام المسجد العتيق بروصو إن جنازته ذكرته بجنازة الإمام أحمد بن حنبل لكثرة الناس الذين حضروها, وأم الصلاة عليه فضيلة العلامة الورع المختاربن باب بن حمدي رحمه الله ودفن بمقبرة تكشكمبه مع والده ووالدته وجده وغيرهم بوصية منه.
رثاه العلامة المختار بن باب بن حمدي المذكور بقصيدة أشاد فيها بمآثره قائلا:
“أيا تكشكمب قد آويت قطب رحي * ماقال لا قط في جواب من سالا”
“عن حل مشكلة في الدين نازلة * قد كع عنها قضاة العصر إشكالا”
ورثاه أحمدو بمب ولد الصوفي البهناوي كما أسلفن, والعلامة القطب بن السالك الحاجي رحمه الله بقصيدة، يقول فيها:
“بل أحمد طال نعيه أدهش الورى* وكاد له سقف السموات أن يهوي”
“فتي عيش في معروفه بعد موته * رأينا به ما في ابن زائدة يروي ”
وغير هؤلاء من علماء وأجلاء البلد.
فرحمة الله تعالي عليه رحمة واسعة وجعله الله مع الذين انعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين آمين، وصلي الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
من موقع ريم آفريك