أين ذهبت ثروات موريتانيا؟ / محمد الأمين ولد الفاضل

أتابع في بعض الأحيان بعض النقاشات ذات البعد الجهوي والمناطقي، وأتأسف كثيرا على حال بعض نخبنا كلما تابعتُ عينة من تلك النقاشات.

المتتبع لتلك النقاشات الرديئة سيتوصل إلى استنتاج متغير، يتغير بتغير جهة المتحدث. فواحدة من نسخ هذا الاستنتاج المتداولة تؤكد أن أهلنا في “الساحل” هم الأكثر حرمانا من بين كل الجهات والمناطق من خيرات الوطن، وذلك على الرغم من أن منطقتهم تزخر بأهم خيرات البلاد : الحديد؛ السمك؛ النحاس؛ الذهب …إلخ

وتؤكد نسخة ثانية من هذا الاستنتاج أن أهلنا في “الشرﯕ ” هم الأكثر تهميشا وحرمانا ويمكن الاستدلال على ذلك بإحصائيات تفيد أنه من الصعب جدا أن تجد من بينهم رجال أعمال كبار أو تجد لمنحدر من منطقتهم شركة كبيرة إلا فيما ندر، وذلك على الرغم من أنهم يمثلون عدديا الأغلبية في هذه البلاد.

وتؤكد نسخة ثالثة من هذا الاستنتاج أن أهلنا في “الگبلة” يعانون من تهميش واضح وبيِّن منذ فجر العاشر من يوليو 1978، وحتى يوم الناس هذا. في حين تؤكد نسخة رابعة من هذا الاستنتاج أن أهلنا في “الضفة” هم الأكثر تهميشا وإقصاءً في هذه البلاد، وأنهم زيادة على  ذلك هم أصحاب مظالم تاريخية ويتعرضون لغبن ممنهج في مجال توزيع الثروة والاستثمارات والوظائف.

تعليقا على هذا الاستنتاج المتغير بتغير الجهات، دعونا نطرح السؤالين التاليين:

ـ أين ذهبت ثروات موريتانيا خلال العقود الست الماضية ما دام أهلنا في “الساحل” غاضبون بسبب الغبن، وأهلنا في “الشرﯕ ” غاضبون بسبب التهميش، وأهلنا في “الگبلة” غاضبون بسبب الإقصاء، وأهلنا في الجنوب غاضبون بسبب الحرمان والتمييز الممارس ضدهم؟

ـ هل هناك موريتانيون من الجن لا ينتمون لأي جهة من جهات الوطن الأربع هم الذين نهبوا ثروات موريتانيا خلال العقود الست الماضية؟

إن هذا الخطاب الجهوي والمناطقي الذي تصاعد خلال السنوات الأخيرة تُطلقه في العادة نُخَبٌ تسعى لمصالحها الضيقة، ولا تهمها في حقيقة الأمر تنمية مناطقها ولا جهاتها، وهي تريد من خلال هذا الخطاب البائس أن تحصل على المزيد من الامتيازات في الوظائف أو الصفقات أو النفوذ، لا أقل ولا أكثر. والمؤسف أنها تجد الكثير من البسطاء في مناطقها تتبنى طرحها الجهوي، والذي لا يُراد منه إلا تحقيق المزيد من المصالح  الخاصة والضيقة على حساب الجهة أو المنطقة.

لو كان تعيين أفراد من جهة ما يكفي لتحسين وضعية تلك الجهة، لكانت في بلادنا اليوم جنات أربع : جنة في “الساحل”، وجنة في “الگبلة”، وجنة في “الجنوب”، وجنة في “الشرﯕ”.

لنطرح الآن طائفة أخرى من الأسئلة؟

إذا كانت تنمية المناطق مرتبطة بالوظائف والتعيينات، فبأي منطق يشكو اليوم أهلنا في “الساحل” من الغبن والتهميش، ونصف الرؤساء الذين حكموا البلاد ينحدرون من منطقتهم؟ أو لم يحكم المنحدرون من هذه المنطقة موريتانيا لما يزيد على 35 سنة؟

ألا تعدُّ ولاية آدرار من الولايات التي يعيش أهلها في ظروف صعبة جدا؟ ألم تكن فترة حكم أحد أبناء هذه الولاية هي فترة الحكم الأطول في تاريخ البلاد؟ فبماذا استفادت هذه الولاية تنمويا من حكم أحد أبنائها للبلاد لعقدين من الزمن، وبِمَ استفادت من تصدر بعض أبنائها لواجهة المال والأعمال لعدة عقود متوالية؟

ألا تعدُّ ولاية إنشيري وعاصمتها أكجوجت من أكثر مناطق البلاد معاناة؟ أليست هذه الولاية تمتاز عن غيرها من ولايات الوطن بأنها هي الولاية الوحيدة التي ترأس البلاد اثنان من المنحدرين منها؟ فبماذا استفادت هذه الولاية تنمويا من ميزة تولي رئاسة موريتانيا لفترتين؟

ألا تعدُّ ولاية الحوض الشرقي من ولايات الوطن التي يمكن أن تنافس ـ وبقوة ـ ولاية إنشيري في المعاناة والبؤس؟ ألا تعدُّ مدينة النعمة من أكثر عواصم ولايات الوطن معاناة، فبماذا استفادت ولاية الحوض الشرقي تنمويا من احتكار الوزارة الأولى لربع قرن تقريبا؟

ألا تعدُّ ولايات الضفة من الولايات التي احتكرت النسبة الأهم من الوظائف الإدارية في السنوات الأولى من ميلاد الدولة الموريتانية، فبماذا استفادت تلك الولايات تنمويا من السيطرة في فترة ما على الوظائف الإدارية؟

ألا تعدُّ مدينة تجكجة من المدن الأكثر عزلة والأكثر معاناة في البلاد؟ ألا تعدُّ نسبة الموظفين المنحدرين من هذه المدينة من أعلى النسب في الإدارة مقارنة بالمدن الأخرى، فبماذا استفادت تنمويا مدينة تجكجة من هذه النسبة المرتفعة في الوظائف الإدارية؟

طالعتُ منذ أيام قليلة منشورا لأحد المنحدرين من مدينة أبي تيلميت يشكو فيه من النسبة الضعيفة الممنوحة لمدينته في الحكومة، أظنه قال إن مدينته ممثلة بوزير واحد في الحكومة الحالية، وقد جاء بعض المنحدرين من هذه المدينة بإحصائية تبين النسبة الكبيرة التي يمثلها أبناء المدينة في مختلف التخصصات والقطاعات، الشيء الذي يستوجب حسب وجهة نظرهم أن تمثل مدينتهم في الحكومة بأكثر من وزير. علق أحد المنحدرين من مقاطعة باركيول على المنشور المذكور بالقول إن مقاطعته لم تحظ في كل تاريخ موريتانيا بوزير واحد ولا حتى بأمين عام، وذلك في وقت يشكو فيه المنحدرون من مقاطعة أخرى من ضعف تمثيل مدينتهم في الحكومة.

لنطرح سؤالين أخيرين في هذه الفقرة: بماذا استفادت مدينة أبي تلميت تنمويا من الوجود المعتبر لأبنائها في الجهاز الإداري؟ وبماذا تختلف هذه المدينة تنمويا عن مدن أخرى في البلاد تحتل الرتب الدنيا من حيث نسبة التوظيف؟

كثيرة هي المغالطات التي يطرحها أصحاب الخطاب الجهوي والمناطقي، وقد يكون من المهم لفت الانتباه إلى بعضها:

ـ يشكو أصحاب الخطاب الجهوي في “الشرﯕ” من قلة تمثيلهم في مجال المال والأعمال مقارنة بحضور أهلنا في “الساحل”. هذه المقارنة غير موضوعية وغير مقنعة، فمن المعروف أن بعض أبناء “الساحل” اهتموا في وقت مبكر من ميلاد الدولة الموريتانية ـ بل ومن قبل ميلادها ـ بالتجارة وبالقطاع الخاص، ولذا فليس من الغريب أن يحتلوا اليوم واجهة المال والأعمال في هذه البلاد.

ـ يشكو أصحاب الخطاب الجهوي في “الساحل” من ضعف تمثيلهم في الوظائف السياسية والمناصب الانتخابية، وذلك في الوقت الذي تمتلك فيه منطقة “الشرﯕ” نسبة عالية من تلك الوظائف والمناصب. أيضا هذه المقارنة غير موضوعية وغير مقنعة، فهذه الوظائف والمقاعد الانتخابية ترتبط بشكل أو بآخر بحجم الكثافة السكانية، ومن المعروف أن بعض ولايات “الساحل” لا يصل عدد سكانها لسكان إحدى المقاطعات في “الشرﯕ”.

ـ يشكو أصحاب الخطاب الجهوي في “الشرﯕ” و”الساحل” من ضعف تمثيلهم في الوظيفة العمومية مقارنة مع أهلنا في “الگبلة”..أيضا هذه المقارنة غير موضوعية وغير مقنعة. فقد كان من الطبيعي جدا بسبب الإقبال على التعليم النظامي أن يحتل أهلنا في الجنوب النسبة الأكبر من الوظائف الإدارية عند ميلاد الدولة الموريتانية، وأن يحتل تلك النسبة في مرحلة لاحقة أهلنا في “الكبلة”.

على من يروج لهذا الطرح الجهوي والمناطقي أن يعلم أن تعيين هذا الشخص أو ذاك من هذه الجهة أو تلك لن يفيد تلك الجهة، ولن يفيد البلاد في أي شيء، فالذي سيستفيد هو ذلك الشخص المعين وأسرته الضيقة جدا.

إن تعيين حكومة كاملة من أهلنا في “الساحل” لن يفيد تنمويا منطقة “الساحل”، وتعيين حكومة كاملة من أهلنا في”الشرﯕ” لن يفيد تنمويا منطقة “الشرﯕ”، وهكذا…إن الذي سيفيد  حقا هذه المناطق هو تعيين أصحاب الكفاءات المشهود لهم بالاستقامة، بغض النظر عن جهاتهم، ومن المؤسف حقا أن هؤلاء يشكلون قلة قليلة جدا في”الساحل” و”الشرﯕ” و”الگبلة” و”الجنوب”.

إنما سيفيد حقا هذه الجهات، وسيفيد البلد كله، هو إتباع سياسات اقتصادية ناجعة تهتم بشكل جدي بثرواتنا الطبيعية، ولو أن الحكومة اهتمت بشكل جدي بثروتنا السميكة، وثرواتنا المعدنية التي تزخر بها منطقة “الساحل” لعشنا جميعا في هذه البلاد في نعيم ورخاء. ولو أن الحكومة اهتمت بشكل جدي بالزراعة في الضفة وفي بعض مناطق “الگبلة” لعشنا جميعا في هذه البلاد في نعيم ورخاء. ولو أن الحكومة اهتمت بشكل جدي بالثروة الحيوانية في “الشرﯕ”، وأقامت مصانع لإنتاج وتصدير الألبان والجلود واللحوم لعشنا جميعا في هذه البلاد في نعيم ورخاء.

إن الدرس المستخلص من جائحة كورونا ومن إغلاق معبر “الگرگرات” يُلزم الحكومة أن تولي اهتمامها جديا ب:

ـ المزارع في الضفة وفي بعض مناطق “الگبلة”؛

ـ صياد السمك والمنقب التقليدي في “الساحل”؛

ـ المنمي في “الشرﯕ”.

إن هؤلاء هم الذين يُعوَّل عليهم حقا، أما النخب التي تمتهن الخطاب الجهوي فلا خير فيها، ولا فائدة ترجى من الاستماع إليها.

تنبيه : أعتذر للقراء عن الكتابة في هذا الموضوع، والذي لم أكن أرغب في الكتابة فيه، ولكن صُراخ أصحاب الطرح الجهوي والمناطقي هو ما أجبرني على الرد عليهم. قد تلاحظون أني لم أتحدث في هذا المقال عن الخطاب الشرائحي والعرقي والذي يشكل هو أيضا كارثة، والسبب في ذلك يعود إلى أني كنتُ قد تحدثتُ عن ذلك الخطاب في مناسبات سابقة.

حفظ الله موريتانيا…

اظهر المزيد