ماذا استفادت موريتانيا من هذه الازمة الدولية ؟ سيدي علي بلعمش
تم الآن ، بما تؤكده كل التقارير العسكرية المتخصصة ، إفشال الهجوم الأوكراني المضاد الذي اعتمدت عليه كل الرهانات الغربية و دفعت بأعتى ما لديها من قوة لكسب رهانه.
هذا الفشل الذريع الذي تحطمت على صخرته كل التوقعات الغربية ، كان بمثابة إنزال النورماندي أي البداية الأكيدة للهزيمة .
كانت الاستراتيجية الروسية كما جاء على لسان أحد كبار أساتذتها ، تقتضي استنفاد قوة العدو من خلال فقد أكبر عدد من جنوده و معداته ، ثم الانقضاض عليه ، بما حيرت به روسيا العالم من كثافة نارية وُصِفت بالجحيم.
اليوم تسيطر روسيا على البحر الأسود و تتحكم في نصف غذاء العالم و يبحث الناتو (و هو يجر أذيال هزيمة أوكرانيا) ، عن أرض أخرى للمعركة .. عن طريقة أخرى لاستمرار مواجهة يملك كل وسائلها إلا الاستعداد للموت : تلك هي الحقيقة المخفية التي عرفت روسيا كيف تتعامل معها بشجاعة خارقة و ذكاء أدهى .
و سيمثل انقلاب النيجر (النقلة التكتيكية الثانية بعد أوكرانيا) ،
ثلاث هزائم للناتو :
1 – الأولى ، نهاية فرانس ـ آفريك ..
2 – الثانية ، نهاية التحالف الفرنسي الأمريكي
3 – تفكك الناتو ..
و لم يعد من المستبعد أن تصبح فرنسا أولى دول الناتو المنضمة إلى البريكس (إذا قبل الأخير) ، في محاولة خجولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما أصبحوا يسمونه “الصداقة الإفريقية” ، بدل بذاءات الحقب الاستعمارية التي انتهت إلى غير رجعة ، بانقلاب النيجر ، مهما حاولت آخر ذيول العمالة (السنغال ، كوت ديفوار ، نيجيريا) ، من خلال تدخل قوات إيكواس في حرب بالوكالة ، ستكون خسارتها الأكيدة (إذا تدخلت) ، نهاية مزلزلة لبقية أنظمة العمالة لفرنسا ، في الغرب الإفريقي ..
لقد أصبح الآن من الواضح أن العالم يتجه إلى ثنائية قطبية حتمية ، ترفض أمريكا تقاسم حزأها من كعكتها مع دول الناتو الفاشلة . و تلك عادة أمريكا مع الأصدقاء.
و ما يجهله القادة الأفارقة اليوم ، هو أن في مثل هذه الظروف العاصفة ، لا مكان للنهايات الباردة : إما أن تفوز بتميز و إما أن تخسر كل شيء.
و صحيح أن لمثل هذه المعارك أكثر من جائزة : أفضل أداء ، أجمل هدف ، أكثر أهداف ، زيادة على كأس البطولة و غيره من جوائز التميز ، المعبرة عن قوة الحضور و استحقاق الاحترام ، بما يمنح أصحابها حق البقاء .
أما البقية ، فعليها أن تفهم لماذا لفظتها البطولة بسبب ضعف أدائها ..
ما جاء عن موقف موريتانيا ، في تقرير صحيفة “لموند” الأخير ، تحت عنوان “الأزمة في النيجر” ، كان أماني فرنسية أكثر من كونه موقفا موريتانيا : كأن الاينتليجانسيا الفرنسية تذكر موريتانيا هنا ، بما من مصلحتها أن تفعله ؛ في تقليعة جديدة تجعل ، البطولة في التقرب من الموقف الفرنسي الداعم للديمقراطية في المنطقة : لا تستطيع فرنسا أن تتخلى عن التعامل مع الأنظمة الإفريقية من خارج دائرة الغباء : فعن أي ديمقراطية في المنطقة أو في النيجر تتحدث فرنسا؟
و لا تستطيع الأنظمة الافريقية العالقة في ذيلها الأبتر ، أن تعامل فرنسا بأعلى من سقف : “إن الكريم إذا خادعته انخدعا” : ليس في التقرب من فرنسا أي مصلحة لأي جهة إفريقية أو غير إفريقية ؛ فرنسا يا قادة موريتانيا ، دويلة كراهية فاشلة ، تقود الحرب الغربية على الإسلام و العرب ، لا يصادقها إلا منافق و لا يراهن عليها إلا فاشل مثلها.
كان باستطاعة موريتانيا أن تكون من أكبر المستفيدين في المنطقة ، من غنائم هذا الصراع الكوني المتخبط في وحل الرهانات الخاسرة ، بموقعها الجغرافي الفريد و الواقع الجيو سياسي لدول المنطقة المتخندقة كلها في خيارات محسومة .
كان باستطاعتها الحصول على كل ما تريده ؛ عسكريا و اقتصاديا و سياسيا و على المديين القصير و البعيد ، نظرا لالتحام مصالح القوى الكبرى على حدودها في لحظة تاريخية طور التشكل ، تشهد نهاية حقبة التَهَمَ فيها كل قوي ما حوله من ضعاف و بداية أخرى لن تختلف عنها في غير تغير موازين القوة لصالح الأذكياء . لكن من الواضح أنها لم تكن مهيأة للعب هذا الدور و لم تكن مقنعة لكسب رهاناته .
كانت أمام موريتانيا فرص كبيرة،
على المدى القصير : في الحضور و التسليح و الحظوة في الامتيازات ، في اتفاقيات أُتيحَ لها أن تطرح فيها شروط العرائس..
و على المدى البعيد و هو الألح و الأهم: في تحديد الهوية و إيقاظ مشروع دولة المور ، المحاصر من قبل الجزائر و المغرب و السنغال و مالي و فرنسا :
– الصداقة مع الجزائر مطمئنة لكنها ليست مريحة ..
– الصداقة مع المغرب مريحة لكنها ليست مطمئنة ..
– الصداقة مع السنغال غير مطمئنة و غير مريحة
– الصداقة مع مالي يلخصها بيت المتنبي في أبدع روائعه :
“من نكد الدنيا على الحر أن يرى / عدواً له ، ما من صداقته بد” :
لا تستطيع الدبلوماسية المالية (في نومها و يقظتها) ، التخلي عن حلم الحصول على أزواد من دون الأزواديين . و الحل عندها نزوحهم إلى موريتانيا و الذوبان فيها..
لا شك أن رداءة الدبلوماسية الموريتانية ، منذ نشأة الدولة حتى اليوم ، هي ظلت السبب الأول في اتساع بقعة زيت هذه الحالة التي لم يعد من المبالغة في شيء ، وصفها بالمأساة الحقيقية.
هذه الحقيقة تعترف بها كل السلطات التي تعاقبت على الحكم في البلد و يردون جميعا على أسبابها ، بما يفهم منه أنها مهمة أكبر من طاقاتهم و أقدم من وقائع دفتر التزاماتهم .!
كل الحكومات الموريتانية ، من الاستقلال حتى اليوم ، ظلت قاصرة عن فهم مشاكل الدولة و عاجزة عن حل مشاكل الشعب . و المجال الوحيد الذي أبدعت فيه الأنظمة الموريتانية (باستثناءات نسبية) ، هو تخريب الدولة و احتقار الشعب..
كل ما نعرفه الآن ، هو أن مالي استلمت ثلاثة آلاف مدرعة دفعة واحدة ، مع عتاد متطور و عززت طيرانها الحربي بقطع نوعية ، تمنحها شبه السيادة في الحيز الترابي المستهدف و المحتمل .
و أن السنغال حصلت على ثلاث قطع بحرية متطورة جدا ، استلمت أولاها قبل وقت وجير و القطعتان الباقيتان قيد البناء . و ستمنحها هذه القطع (واضحة المهمة و الرسالة) ، السيادة في المجال.
و لأن موريتانيا وحدها من كل هذه المجموعة ، هي من تتمتع بحدود حرب مع كل الجهات ، لا أفهم فقط لماذا تكون أقلهم إنفاقا عسكريا و أكثرهم اضطرابا في مواقفها السياسية !؟
لم تستفد موريتانيا أي شيء من هذه الأزمة مفتوحة الأذرع و الخيارات ؛ و الأسباب دائما هي :
– غياب مراكز الدراسات
– غياب اللجان المتخصصة
– ضعف الدبلوماسية (حد الغياب)
– عدم اختصاص المستشارين
– سيادة المواقف الارتجالية
– مركزة القرار ، بأعلى درجات الابتذال…
*و لله الأمر من قبل و من بعد *.