قياس الأمكنة في الحسانية (2) / سيدي أحمد ولد الأمير
ذكرنا في الحلقة الأولى بعض اصطلاحات متكلمي الحسانية للمكاييل والموازين وألفاظ قيسها ومعيارها، وسنتناول في هذه الحلقة مصطلحات ضبط الأمكنة والأزمنة، فللحسانية معجم واسع في هذا الحقل الدلالي. وكنت قد ذكرت في مقالي السابق عن الكيل والوزن وقيسهما في الحسانية أن هذا الموضوع موجود بكثرة في الوثائق الموريتانية القديمة وفي الأدب الحساني، وذكرت أنه تناوله قبلي باحثون موريتانيون وفرنسيون، كالإداري الفرنسي بول ديبييه والمستشرق الفرنسي آلبير ليريش، وتعرض المؤرخ الجليل المختار بن حامدٌ رحمه الله تعالى لجانب منه في موسوعته التاريخية. وحاولنا هنا تمحيص ما جمعناه من هذه المراجع وخصوصا ما يتعلق بالأمكنة وقيسها لهجتنا الحسانية، ونقلنا بعضه كما ورد كما هو، كما أضفنا أشياء لم تذكر، وما قمنا به إنما هو للإثارة وللتمثيل وليس استقصاء ولا استيعابا.
قياس المكان في الحسانية
مقاييس الطول في الحسانية كثيرة وفيها ملامح تدل على عبقرية هذه اللهجة العربية المرتبطة بالصحراء الشنقيطية وعادات وأهلها وطريقة تمثلهم للأمكنة والأطوال والمسافات.
ومن مصطلحاتهم لقيس المسافة القصيرة قولهم: “تنْقِيشتْ دَبُّوسْ” أي مسافة رمي العصا رميا قريبا. وفوقه “زرݣ الدبوس”، أي رمي العصا، وهم قريب من الغلوة في الفصحى، والغلوة مقدارُ رميةِ سهمٍ، وتُقَدَّرُ بثلاث مئة ذراع إِلى أَربع مئة. والجمع: غِلاءٌ، وغَلَوات.
وأطول من ذلك: “زرݣ مدفع” أي رمي بندقية، ويقصدون به المدى الذي تصله الرصاصة.
وعندما يكون المدى طويلا نسبيا يقولون عنه: “اتْمَايِيحَه” وهي مشية المتمايل، والمقصود بهذا اللفظ معناه المجازي أي تلك المسافة التي يقطعها الإنسان بلا مبالاة ودون عجلة، أي أنها مسافة قصيرة.
وفوق ذلك يقولون عن المسافة الطويلة نسبيا “اتْواطِيَّه” أي مسافة يقطعها الرجل بخطى طويلة، فمثلا بالنسبة لساكنة نواكشوط فما بين العيادة المجمعة والثانوية العربية “اتْمَايِيحَه”، وما بين العيادة المجمعة وتقاطع مدريد “اتْواطِيَّه”.
ويقولون “عَيْطَه” وهي مسافة قريبة من كيلومتر.
ويقولون “شَوفَه” وتعني مدى الرؤية وهي مسافة قريبة من أربعة كيلومترات.
و”شَوفَتْ أهل الابلْ” تعني مسافة مدى رؤية رعاة الإبل وهي أطول من السابقة.
أما “شَوفَتْ لِكْدَ” أي مدى رؤية الجبال وأفقها، فهي مسافة طويلة جدا وغير محددة، فالجبال يراها الرائي وكأنها قريبة، وعند السير في اتجاهها تظهر المسافة بالغة الطول.
ويقولون “مِيرَادْ” وتعني المسافة بين الحي البدوي والبئر التي يشربون منها، وعادة يكون الميراد من كيلومتر إلى كيلومترين. ويخصصون فيقولون: “مِيرَادْ آسْكرْ” وهو أطول قليلا من السابق. وآسكر: الحي البدوي الذي يتقرى معتمدا في معاشه على تنمية البقر وجمعه إسكران كما رأينا. أما “مِيرَادْ أهل الابلْ” فهو مسافة أطول كثيرا من السابقتين؛ إذ هو مسافة يوم إلى يومين.
ويقولون: “رَحْلَه” للمسافة يقطعها الحي البدوي في نجعته من مربع إلى آخر، وهي مسافة قصيرة عادة لأن في الحي البدوي الأطفالَ والنساءَ وكبارَ السن. فرحلته من مكان إلى آخر تكون أول النهار وتكون قصيرة قد لا تتجاوز حدود كيلومترين إلى ثلاثة.
ومرادف “الرحْلَه” لفظ “رَفدَه”، ويخصصون هذا اللفظ فيقولون للرحلة للقصيرة: “رَفدَه واشْبَحْ” أي: رِحْلَةٌ ثم أفْرِشْ الحصائر والفرُش، وأطول منها “رَفدَه وانزْݣ” أي رحلة واصرخ بأعلى صوتك، فكأنها رحلة أطول من سابقتيها. أما “الرِّحْلَه” أو “الرَّفدَه” القصيرة غاية فهي “تݣْلِيبَه” أو “تݣْلِيبتْ امْرَاحْ” فكأنه حركة قصيرة جدا يراد منه تغيير زريبة المواشي وحظائرها.
ويطلقون “امْݣِيلْ” على مسافة يقطعها الراكب في نصف يوم، وتكون ما بين 15 إلى 30 كلم بحسب الراحلة وسيرها. ويخصصون “امْݣِيلْ” فيقولون: “امْݣِيلْ أرݣاجْ” أي نصف يوم من السير للراجل الذي لا راحلة له. وفوقه: “امْݣِيلْ الخَطْرَه” أي نصف يوم للقافلة، ويرادفه “امْݣِيلْ أمݣطارْ”، أما “امْݣِيلْ لبجاوي” فمسافة نصف يوم للراكب دون سواه.
وفوق كل هذه المسافات “جَبْدَه” وهي أطول من “امْݣِيلْ”؛ حيث إنها مسافة يقطعها المسافر المنطلق فجرا ولا ينزل حتى بعد منتصف النهار.
هذا عن المسافات، أما الجاري عندهم في قيس الأطوال فهو المعروف في الحضارة العربية كاستعمال الشبر والذراع والقدم، وهي أعضاء الإنسان المعروفة والتي يعتمد عليها في قيس الطول.
وفي الحسانية يبدؤون بأصغر وحدات الطول وهي “مَطْرَحْ اصبعْ” أي عرض الإصبع ثم “مَطْرَحْ صبعيْن” ثم “مَطْرَحْ أثلت أصباعْ”… ويلي لك “اشبرْ” وهو مسافة رأس الإبهام إلى رأس الوسطى بعد مدهما. ثم “اذْراعْ” وجمعه “ذرْعَه” وهو من رأس عظم المرفق إلى رأس الوسطى. واشتهر عندهم قيس القماش بالذراع. ويقولون في العبارات الشعبية “الذرْعَ الْ تَالْبِينْ الوزْرَه”، أو “ما يعرف الذرْعَ الْ تَالْبِينْ الوزْرَه كم؟”، والوزرة وحدة من القماش وترادفها “البيصة”، والعبارة كناية عن السذاجة وعدم إدراك المغزى من المقصود.
ويستعملون القدم في قيس الحصائر والخيم والسجوف وغيرها، ويطلقون عليه “وَطْيَه” أي طول القدم.
وبعض فقهاء شنقيط يقول إن الميل يساوي ألفي ذراع، وبعضهم يقول إنه ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، ولذلك اختلفوا في تحديد مسافة القصر على أقوال. والقصر عند السادة المالكية أربعة بُرُدٍ (جمع بريد) وكل بريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال، وعل هذا فمسافة القصر ثمانية وأربعون ميلًا، والمشهور أن الميل ألفا ذراع على قول وثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع على قول. وفي نهاية القرن التاسع عشر قام بعض أولاد موساني من تجكانت عن طريق حبل طوله ألفي ذراع بتحديد المسافة بين قرية لݣصيبه (بودور) وبين ملݣى لمراير فكانت 48 ميلا أي مسافة القصر. وفي نفس التاريخ قام بعض أولاد سيدي الفاضل من أولاد ديمان بقيس المسافة بين قرية دݣانة وبين بئر اجوَيْهل فكانت أيضا 48 ميلا. وقبل ذلك بأزيد من عقدين وبنفس الوسيلة حدد الشيخ سيديا الكبير مسافة القصر بين بوتلميت وبين العديد من آبار أولاد أبييري بآمشتيل، ليعرف بدقة مسافة القصر.
وفي قياسهم للأطوال عبارات من صميم البيئة الموريتانية، فمن أطرف ذلك استئناسهم ببيئتهم الحيوانية فيقولون لما دون الشبر “فم كلب”، وبما كان فوق الحزام للواقف “نواشتْ بݣرة”، أي ذيل بقرة وغالبا ما يستعمل في قياس طول الآبار. يقول امحمد ولد احمد يوره:
ݣيّم لي شوف ادويرَه بيْن * انْبَنْباتْ اعل رَيْ العينْ
غيوان امْدَقّسْ لُ سَنْتَيْن * أمغرش عني كنت ابْرَ
أمّ شوف اديار انْيَذْنَ * ذيك الدّرْسْ وُدارُ لخرَ
ݣامولي منهم غيوانين * اكبار ونواشت بݣره
قيس ماء المطر
اهتم متكلمو الحسانية بقياس ماء المطر لارتباط حياتهم به فبسببه تأخذ الأرض زخرفها وتتزين فتجد الأنعام غذاءها ويكثر لبنها ويشتد عودها وتسمن؛ فلذلك كان معجم قياس ماء المطر متنوعا كثيرا. وتقديره متعلق بسمك وعمق ما أترعه ماء المطر من الأرض بعد ارتوائها منه.
وأول ذلك “ماءْ انعالَه” فكأنه لا يتحاوز مستوى نعل الإنسان. ويليه “حافرْ” والحافر من الدواب ما يقابل القدم من الإنسان. وهو في قياس المطر يعني طول أصابع اليد لغاية آخر سُلاَمَى متصلةٍ بالكف، أي ما يقارب 12 سنتمترا.
ويليه “ارسغْ” وهو مفصل بين الساعد والكف. وفي المعاجم العربية رَسَغَ المطرُ: بلغ ماؤهُ مقدارَ الرُّسْغ. وهو نفس المعنى في الحسانية.
ثم “زنْدْ” وهو فوق “الرسغ” بقليل، ويرادفه “نص مرفݣ” أي نصف مرفق.
أما “مرفݣ” وهو مفصل بين الذراع والساعد، فهو من قياسات المطر الكثيرة التداول في الحسانية وهو قريب من نصف متر.
وفوقه “عَظْلَه” أي عضلة الذراع وهي النصف بين مفصلي المنكب والمرفق.
ثم “منكب” ويقال لكمية ماء المطر إذا بلغ عمقه المنكبَ عند حفر الأرض بعد ارتوائها منه.
وإذا كان ماء المطر غزيرا واستوى فيه السهل والحَزن والكثيب والغور وعالية الوادي وسافلته فيقال حينئذٍ “اسْحَابْ ما تُوَݣَّفْ” أي لا يوقف لها على قياس.
قيس طول الآبار
وفي الحسانية قياس خاص للآبار فأقصرها وهو العُقُل يكون طوله: “رُكْبَه” وهي طول ما بين القدم إلى الركبة أي قريب من 50 إلى 55 سنتمتر.
وفوقه: “حرݣفَه” أي مستوى الحزام من الإنسان، ودون “حرݣفَه” بقليل: “نواشتْ بݣرة”، أي ذيل بقرة كما ذكرنا فوق.
وفوق “الحرݣفَه” وحدة تسمى “منكبْ” أي مستوى منكب الرجل. ويقيسون الآبار الطويلة بلفظ “الوݣفَه” وهي أن يقف الرجل ويرفع يديه إلى الأعلى وعادة ما يكون ذلك خمسة أذرع أي متران ونصف المتر. ويقال “وݣفَه امْدَرمْزَه” أي من أسفل القدم إلى الرأس (دون رفع اليدين إلى الأعلى)، وهو قريب من متر وسبعين سنتمتر.
ولا بأس أن نعرج على المعجم الخاص بالبئر في الحسانية فهو متصل بالموضوع وعالق به؛ حيث تطلق البئر في عرف الموريتانيين على كل عين ماء تجاوزت ثماني قامات (16 مترا فما فوق)، أما إذا قصرت عن هذا الطول وكانت مطوية فتسمى “العين” وهي البئر التي تظل مستعملة لأنها مطوية وعادة ما تكون في الحواضر وفي واحات النخيل. وإذا قصرت جدا وصار ماؤها يغرف بالقدح، ولم تحتج إلى الطي لقصرها تسمى “آرْشان”. و”العݣلة” كل بئر قصيرة تمتح باليد ولا يحتاج متحها للحيوان. و”آميورْ”: بئر حديثة حفرت على بئر قديمة. وتمتح البئر بالدلو وبالرشاء يشد إلى الحيوان.
كما تطوى البئر قديما بالعيدان والحشيش وخاصة حشيش نبتة تعرف باسم “أزرانْ”. ويطلق لفظ “الحاسي” على البئر الطويلة (تكون مثلا أربع قامات أي ثمانية أمتار) غير المطوية وما طال جدا سمي بئرا. وتطلق “الظاية” على المستنقع المائي المتجمع بعد هطول المطر والذي يجف بعد فترة وجيزة، أما “الملزم” فالفرق بينه وبين “الظاية” أن الماء يبقى به عدة أشهر. و”الݣلتة” مستنقع مائي يتجمع بين الهضاب والجبال من هطول الأمطار ويظل الماء باقيا بها طيلة السنة. ويطلق “إريجي” على العين بسفح الجبل وإذا كانت بأعلى الجبل سميت “ݣطارة”. و”الوادْ” مجرى الماء عموما ويختص عند بعض الموريتانيين بالمجرى المائي الواقع وسط الأشجار، وتقابله “البطحاء” وهي مجرى مائي في أرض جرداء. ويطلقون “الكراع” وجمعه “كرعان” على منخفض أرضي يجري به ماء مصدره نهر او بحيرة. وتكثر “الكرعان” في منطقة شمامة على ضفة نهر السنغال. و”التيشليت” أضاة كبيرة تتجمع فيها مياه الأودية لفترة مؤقتة وخاصة في فصل الخريف، و”اللݣة” وجمعها “لݣات” أضاة صغيرة وعميقة.
وعلى ذكر المطر يقول بابه ولد محمد ولد هدار في مدح الشيخ محمد عبد الحي ولد سيدي أحمد ولد الصبار رحمهما الله:
ياعوارظ حَد ابلا اجدر * لا نمشِي مانِ غارظ
لاعوارظ خيرك يا اجدر * الاَخظر عاݣب الاعوَارظ
ما كيفك حَد اليوم دابّْ * يا الشَيخ اعلَ وجه اترَاب
والمعطَ مانك فيه شاب * صارم معناه ݣارظ
والݣارظ لَك واللِّي اغتَاب * اعود اغتاب وݣارظ
طبعك لحلاوَ واجواب * بالليلوُ ربَك فارظ
عارظ للِي جَ باشراب * و ابلُكيل اتجِ عارظ
يالعارظ سطرت كل باب * يلمجوَد يالعارظ
يا بحر العلم ويا اسحاب * المعلُومَه والعارظ
خاتمة:
هذه محاولة لرصد تسميات بعض ألفاظ قيس الأمكنة في الحسانية، وهي بعيدة كل البعد من الاستقصاء والكمال، إنما أردنا من خلالها التنبيه على غناء هذه اللهجة وتنوع سجلاتها المعجمية الخاصة بالمكان، وقد يكون في ذلك فائدة لدارسي اللسانيات والثقافة الشعبية للتعاطي مع هذا الحقل الدلالي المهم.
انتهى.