النوازل الفقهية..ومَرْتَنَةُ حقوق المرأة / موسى أعمر
في قيم المجتمعات هناك ثوابت ومتغيرات، تماما كما ينبغي أن تكون كذلك قواعد نظامها التشريعي الفقهي، وفي خضم الرغبة في تحقيق التطور وفق الحيز الثابت المتغير عندنا وطنيا؛ تندرج الرغبة في “تقنين حقوق المرأة” كجزء من حقوق الإنسان بشكل عام، وأمام حقيقة أن عالمية حقوق الإنسان ينبغي أن تحترم ثقافات المجتمعات حتى تتمكن من الوصول لهدفها المنشود؛ من المهم أن تبرز في سبيل تعريف الاحتياج المحلي، مكانة المرأة في نظامنا الاجتماعي دون رتوش، ومكامن الخلل التي يحسن التنبه لها.
ومن نافلة القول أن في الحقل جهابذة أفذاذ، محنكون يحسنون الحديث والعرض في الموضوع وعنه، لذلك يحاول تلميذهم التطفل ليكتبوا عن الموضوع مصححين وموجهين ومسهمين في تكريس حقوق الإنسان وهوية وطننا المسلم.
وعطفا على العنوان؛ فإن المرأة كجزء من المجتمع معنية بنوازله وأحداثه، مع اختصاصها بأخرى تبعا لأحكام الله التشريفية التكليفية لها دون غيرها، والتي عولجت بالبحث والإفتاء من قبل علماء الشرع في مراحل وعصور مختلفة، ومليئة بها كتب المتقدمين والمتأخرين من المؤرخين والمحققين في مجال فقه النوازل.
وفي بحث علمي لأستاذي الدكتور محمذن بن أحمد بن المحبوبي معنونة ب “المرأة الشنقيطية ونوازل الزينة والبدانة ” أورد الأستاذ معلومات ثرية تاريخية، رغم أنها متخصصة فقهيا، إلا أن الطابع الاجتماعي لمواضيعها والحيز الزمني الذي اهتمت به يجعلان منها رافدا معرفيا هاما للاطلاع على مكانة المرأة الاجتماعية والتشريعية في مجتمعنا الوطني.
في المحور الأول من البحث عرض الدكتور لمكانة المرأة في الشريعة الإسلامية، وفي المجتمع الموريتاني تخصيصا، تلك المكانة التي تظهر في كل حقبنا الإنسانية، وتتعزز كلما تعززت قيم الإسلام والتدين.
وقد اخترت هذين النموذجين الآتيين من بحث الدكتور لأصالتهما في الفقه وعراقتهما في تاريخنا المجتمعي وثقافتنا، حيث يوضحان ما أريد التنبيه إليه من زاويتي؛ إعطاء صورة عن مكانة المرأة المرموقة في ثقافتنا التشريعية، ولفت الانتباه إلى مكامن الخلل التي تحتاج الإصلاح.
” التبلاح في نوازل الفقهاء الشناقطة”
يعرف الدكتور محمدن المحبوبي في بحثه المذكور أعلاه التبلاح بأنه: “المبالغة في تسمين المرأة حتى يزداد وزنها ويتضاعف حجمها، وذلك بإكراهها على الطعام والشراب أكثر من اللازم”، وقد اتخلف الفقهاء في العصر محل بحث الأستاذ، بين محرم، ومبيح، ومفصل.
فذهبت طائفة فقهاء منها الشيخ محمد المامي إلى جوازه، كون فيه تمام الزينة وصلاح البدن.
العلامة حيمده بن انجبنان ناقش قضية أبعد من مجرد طلب السمنة فقد نظم أبياتا في حكم خروج المرأة مع الرعاة طلبا للسمنة فأجازه لرفع الضرر فقال:
وامنع خروجها مع الرعاةِ … لطلب الشحم على العاداتِ
ولو له لم تجدِ الا أن مشت … مع الرعاة وأبح إن “تَيمَشت”
ولم تجد ما يدفع الضرورهْ … إلا بهذي المشية المذكورة
أما المحرمون “للتبلاح” فقد أسسوا رأيهم على ما ذكره النووي من أن “عدم السمنة أفضل بدليل ما جرى لعائشة رضي الله عنها في قصة حمل الصحابة رضوان الله عليهم لهودجها يظنون أنها فيه، كما نقلوا عن الحطاب تحريمه “إذا أدى لضرب أو ضرر بالجسم أو ضياعة للطعام”.”
وذكر الحطابُ في الأضاحي … أن لا يجوزَ فادح “التبلاحِ”
ونظير هذا البيت من الشعبي ما ذكره الباحث في طلعة تقول:
باش اگد التبلاح ابيح … يسلك من يخسر فيه اطعام
وامن الضرب اعليه الصريح … للطفلَة واظرورت لجسام
ويلَ عاد الحطاب اصحيح … ذَ راهُ نقلُ نقل اتمام
وخير ف لعليـــــات اتريح … عنها من لهرام ولحرام
ويختم الباحث الحديث عن التبلاح في النوازل الفقهية بإبداء رأي بجواز التبلاح أصلا لأنه “من كمال الزينة المرأة، غير أنه يلزم أن يقوم على التوسط ويبتعد عن المبالغة والمغالاة لما قد ينجر عنه من ضرر في الجسوم وإضاعة للأموال وخط على الصحة”.
وفي فتوى كلا الطرفين لم أعثر على محل فيه انتقاص من المرأة، للتسهيل لها كناقصة، أو اعتبارها أداة بيد الغير كحق عيني، ولم يتضح تقييد لحريتها خارج عن سياق المعقول اجتماعيا وفق واقع الناس المعاش كما ترسمه الكتابات التأريخية.
يوضح نموذج الرأي الفقهي المحترم للمرأة ككيان، المناقش لمصالحها وما تتعرض له من أضرار، الممتد زمانا وتطورا اجتماعيا في حيز نقاشنا من الشيخ محمد اليدالي تاريخيا وحتى الشيخ محمذن المحبوبي اليوم؛ يوضح أن مكانة المرأة في التشريع المحلي وقيم المجتمع مصانة على جلالة دون انتقاص، أو امتهان، في حيز الكليات والأصول.
“حكم استخدام الشرويطة في نوازل السادة الشناقطة”
يعرف الأستاذ محمدن المحبوبي “الشرويطة” أو “أكافة” بأنها تطلق على: “قوسين حديديين معكوفين، تلوى عليهما خِرقٌ من قماش أو خيوط أو أسلاك سوداء، ثم يربطان مع أصول شعر المرأة بخيوط تثبتها تثبيتا كاملا على الرأس”.
هذه الزينة المستجدة على المجتمع حينئذ؛ وضعت الفقهاء أمام نازلة، توقف بعضهم عن الكلام فيها، وعرض آخرون لآراء محرمة حملا لها على فروع أخرى، وأباحها جمهور من الفقهاء مستدلين لآرائهم.
يعرض الشيخ محمذن أولا للقائلين بالحرمة، فيورد على رأس المفتين بالحرمة الكصري بن محمد بن المختار الإيديلي، ثم الشيخ ماء العينين بين الشيخ محمد فاضل، و العلامة الورع الحاج بن فحف المسومي، وختم الشيخ محمذن عرضه لهذا المجموع من فتاوى القائلين بحرمة “اكافة” ببيت يلخص رأي القاضي المصطفى (أبين) بن ببانة بقول فيه القاضي:
تعظيمُ شعرِ امرأة بالزَّيدِ … عليهِ ممنوع بغيرِ قيدِ
وعلى الجانب الآخر تصدر المفتين بجواز زينة “الشرويطة” وإباحتها للنساء؛ العلامة أحمد بن محمودن اليدمسي، حيث حرر فتوى مطولة صرح ضمنها بجواز استخدام هذه الخرقة، وذهب مذهبه في ذلك الشيخ سعد أبيه بن الشيخ محمد فاضل، وكذا محمد محمود بن أحمد بن أواه الأبييري.”هـ
مجموع هؤلاء الفقهاء الذي عرض لهم الشيخ وذكرت، ينضاف لهم آخرون ضاق المقام عن ذكرهم؛ من مناطق شتى وطنيا، ومن مشارب اجتماعية متباينة، ومن طبقات تاريخية مختلفة، يوضح عدم بناء أي منهم حجته على احتقار المرأة، مع اهتمامهم بها لهذا المستوى؛ أن التاريخ الوطني اجتماعيا وثقافيا وتشريعيا؛ ليس هو ما يكرس احتقار المرأة، أو التقليل من شأنها، وأن الموروث الذي يحترم لها زينتها ويناقش “الشرويطة” و”اهريد الوذنين” و”لبلوح” بين كبار علماء الشرع فيه؛ هو موروث بعيد من منعها من حقها في الحياة أو العيش الكريم.
يبقى جزء من الحقيقة كامن في ضرورة التنبيه إلى أن نوازل جديدة متعلقة بالواقع لم تطرق قديما لأنها متجاوزة بحكم الظرف والواقع حينئذ؛ باتت تحتاج اليوم بحثا وسعيا جادا ومسؤولا يتبنى الإرث السليم من الثقافة الوطنية أساسا ومن الشريعة الإسلامية مرجعا.
لكن هذا النضال الجاد وتلك الحقوق التي يُسعى لتكريسها مراعاة لحاجة الوقت، ينبغي أن ينادى بها في سياق احترام ثقافة المجتمع، ومراعاة القيم والثوابت. ليس فقط لسواد عيون القيم والثوابت.. بل لأجل الواقعية في الأداء، المُمَكِّنة من تحقيق أثر.