هل تُصلح المأمورية الدستورية الأخيرة ما أفسده العاشر يوليو ؟
حلت منذ أيام ذكرى العاشر من يوليو ، يوم انقلب الجيش على الحكم المدني عام 78، مر الحدث لم يخبر عن نفسه ولم يذكره أحد وقلة من الناس تذكره وفي ذلك حكمة بالغة ؛ وتصادفت الذكرى هذه السنة مع الإستعداد لمأمورية دستورية أخيرة لرئيس الجمهورية ستبدأ بعد أيام ؛ وبين الحدثين فاصل زمني كبير ولا تبدو بينهما علاقة مباشرة ولا يجمعهما شكل ولاسياق ، لكن العلاقة السببية بين ما تعيشه البلاد اليوم وما حصل لها يوم تعطلت المؤسسات المدنية في العاشر من يوليو لا يمكن إغفالها ولا ينبغي التغافل عنها ويجعل ربط الحدثين ممكنا من باب تلمس إمكانية أن تكون المأمورية الأخيرة فرصة مواتية لتدارك أسباب الفشل المؤسسي الذي عمت بلواه منذ عقود يعبر عن نفسه في سوء الحكامة تارة وقلة الحيلة وضعف التدبير تارة أخرى وفي غالب الأحوال تجتمع كل هذه المساوئ في آن …..فكيف استطاع نظام المرحوم المختار ولد داداه بناء نموذج حكم سياسي أقنع الغالبية من الناس ومنظومة حكامة أجمع خصومه أن لا خدش بها ولا عيب ؟ وكيف نسفت أنظمة الحكم التي أنتجها انقلاب العاشر يوليو كل الأسس التي تقوم عليها الدولة المدنية العصرية ؟ وما الأسباب التي تبعث على الأمل في أن يعيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني تأسيس الدولة من جديد خلال مأموريته الدستورية الأخيرة ؟ وماهي العقبات التي قد يواجهها إن هو هَمَّ بإنجاز هذا المشروع فعزم وتوكل؟ وما هي الخطوات التي عليه أن يقوم بها في سبيل تجاوز أسباب فشل نموذج “لابول” للحكم والحكامة ؟
يوم نالت بلادنا استقلالها كانت الإمارة دولة وكانت القبيلة دولة عنوانا للناس وهوية ومأمنهم يوم الحاجة وملاذهم حين يخافون وكان وجود الدولة نافيا ومتجاوزا للإمارة والقبيلة ومتعارضا معهما في كل شيئ، فلم يكن طريق تأسيس الدولة سالكا دون أشواك….
تمكن المرحوم المختار ولد داداه بكياسته وفطنته أن يدير صراعا قويا ولكنه هادئ مع أقوام ستنتزع منهم الدولة المركزية الكثير من السلطة والجاه كانوا يتمتعون به وكان هو العنوان المميز لهم بين الناس ومما سهل عليه المهمة أن خطواته كانت عامة وشاملة ففازت سلطة المركز على سلط الأطراف بقبول ورضى سادة القوم وكبرائهم….
فلماذا قبل الناس بالتنازل عن جاه وسلطان دون ممانعة كبيرة لصالح دولة المواطنة ؟ أم أنهم جميعا وجدوا فيها من الخير والأمن والأمان مالم يكن لأحد منهم بمفرده أن يتوقع الحصول عليه لو ظل يدور في حيز جغرافي (أميري )ومجتمعي (قبلي أو عشائري) ضيق……
كانت الدولة راعية للجميع وكانت أقوى من الجميع وعادلة بين الجميع فحازت أسباب القوة الحقيقية فنالت قبول الناس بلا إكراه…….
بدأ المرحوم المختار ولد داداه مشروعه السياسي ببناء الإنسان أولا فكسب الرهان بسرعة رغم تواضع وسائل الدولة ومحدودية إمكاناتها ، فكان كل شيئ متواضعا إلا الدولة فكانت كبيرة.
لم يكن في البلاد عدد كبير من حملة الشهادات ، لكن الوعي بالدولة تسارع بسرعة و كان عاليا في نفوس الناس ولم تكن الحقبة وردية بالكامل بل كانت بها أخطاء وتجاوزات ونواقص وملاحظات وخلافات في التصورات والرؤى بررت ظهور معارضة قوية لديها مشروع غير الذي تقوم السلطة بتنفيذه ولم يكن داخل النظام الحاكم من به مظنة للشبهات ولم يكن قادة المعارضة مظنة لها …..
فلماذا كان الحكم المدني أكثر استقرارا من الأحكام العسكرية التي توالت من بعده ؟ ولماذا طيلة عشرين سنة من حكم مدني لا يملك وسائل كبيرة، لم يتعرض إلا لإنقلاب عسكري هو الأول والأخير ؟ فهل يكون مرد ذلك أن الذين يختلفون مع الرئيس لم يروا منه يوما أنه يرى نفسه غير خادم لبلده ولم يَبدُ منه ولا من طاقم حكمه ما يوحي أن السلطة مُدرة لمزية شخصية أو منفعة للأهل والأقربين أو حظوة ينالها البعض وتعز على البعض الآخر……؟ كان المرحوم المختار نظيف اليد ، والسياسي، على قول قائل ، يبقى محترما ما دام لم يطلب شيئا لنفسه ، ولولا الحرب قد لا يكون وقع عليه انقلاب أصلا…
عاجلته الحركة الإنفصالية حين لمست فيه أنه يصالح موريتانيا مع نفسها فانحاز لشعبه، فَشِلت الحركة ونجت الدولة وتوطد كيانها ووجد كل واحد فيها نفسه ،لا غبن لأحد ولا مفاضلة بين الناس وعمًّ كل مرافقها نظام حكامة دقيق يحمى المال العام من أية يد قد تمتد نحوه لتعبث به ويخلق ثقافة العفة والزهد وينميها وينشرها.
الخلاف بين السلطة والمعارضة كان حول مقاربات الحكم وتسيير الموارد وخدمة الناس وحين استجابت السلطة لمطالب المعارضة فأممت “ميفرما” وسكَّتْ العملة الوطنية وحررت البلاد من التبعية الإقتصادية والمالية للمستعمر انتفت أسباب الخلاف فتوافق الطرفان….لم يكن الموالي يوالي لمكرمة ينتظرها ولم يكن المعارض يعارض لمكرمة حرِم منها…..كان المشهد مغايرا تماما لما نحن عليه اليوم.
قبل العاشر من يوليو كانت القبلية قد أفِلت أو تكاد ولم يعد للوجاهات الأميرية والإجتماعية من دور داخل منظومة الحكم ولا دور لها في تصريف الأمور وأما الشرائحية فما كان لها من وجود أصلا والدعوات الإنفصالية سقطت تحت هيبة الدولة الوطنية وإصرار النظام الحاكم ، رغم ضعف الوسائل ، على أن لا يكون لأحد من موطن غير وطنه وأن لا يقبل من أحد أن يختار لوحده كيف يكون الوطن…… فما الذي تغير بعد العاشر يوليو ؟
توقف مشروع بناء الدولة الوطنية وضاعت خبرات راكمها طاقم حكومي نظيف طيلة عشرين سنة من الخدمة العمومية، انكفأ بعيدا حين دارت الأيام ، فضلَّ الناس معالم الطريق وحل فراغ كبير ؛ لا دستور فيه ولا مؤسسات سياسية ولا برامج حكم ، والسلطة بيد من تغلب على صحبه والبيان رقم واحد هو الإعلان الفاصل بين حقبتين ولا تشترك الحِقَب في شيئ غير تسخير السلطة القائمة موارد البلاد وجيشها وأمنها لتأمين الوافد الجديد للقصر !!!!!
لم تعد الدولة تعني شيئا للناس وأصبحت في مخيال العامة أنها ملك لمن يحكمها ، فعاد الحس القبلي بسرعة وبقوة وعاد الحس الجهوي والعشائري بقوة وعادت “الأنا” تفور وتطغى والتنافس على الغنيمة رياضة يمارسها الجميع فأصبحت البلاد على موعد مع انقلاب أهل المنكب الفلاني والقبيلة الفلانية وثورة الفصيل على الفصيل وعادت مصطلحات “الزوايا” و”لعرب” وأهل الشرق وأهل الجنوب وأهل الشمال وأهل الغرب تطفو من جديد فانبعثت كل عوامل الفرقة التى كان الناس قد ظنوا أنها انتهت ولن تعود وضاع مفهوم الدولة من أذهان الناس وتعطل المسار …..
ثم انبعثت الحركة الإنفصالية من مرقدها ولكن هذه المرة طفت بقوة كبيرة وجاءت بمشروع أكبر وأشمل أن تستولي على السلطة برمتها وتقيم دولة “الوالو والو” بعدما كان مبتغى أملها عام 66 ينحصر بين الفيدرالية و الإنفصال !!!!
كان فشل الأنظمة في توطين أسباب التنمية محركا لغليان كبير داخل الأوساط الشعبية، ليس فقط في موريتانيا وإنما في عموم القارة و كاد هذا الغليان يعصف بكل الأنظمة “غير المنتخبة” وكان على فرنسا أن تمتص الغضب الداخلي ضد الحكام فتصيب عصفورين بحجر واحد؛ تنقذ من دفعت بهم للسلطة من غضب الشعوب وتضمن استمرار نفوذها في القارة، فجاءت بفلسفة جديدة أن مرد الفشل يعود لكون هذه الأنظمة استولت على السلطة بالقوة ولم تشرك الناس في تسيير أمورهم وأنه بمجرد أن يكون للمواطن دور في اختيار الحاكم ستتغير الأحوال نحو الأحسن …..فكانت “لابول عام 91″
تستند هندسة ” لابول” على استبدال “السطو العسكري” على السلطة من خلال الإنقلابات ب”السطو المدني” عليها من خلال انتخابات متَحكَّم في نتائجها….سيتراجع الإهتمام بمخرجات مدرسة “سينسير” العسكرية الراعية لتكوين ضباط يتم اكتتاب بعضهم من قبل المخابرات الفرنسية للقيام بانقلابات عسكرية عند الحاجة وسيتحول التركيز نحو المنظومات القبلية والعشائرية والشرائحية لتكون حاضنة للإنقلابات المدنية فيتم تحضير قادة هذه المنظومات داخل أروقة السلطة وتوجيههم ومدهم بأسباب النفوذ والجاه …..قد لا تنجح فرنسا مرة ولكنها في الغالب لا تفشل.
أُعلن عن التعددية السياسية وعن ترخيص الأحزاب وعن فصل السلطات وعن حرية الصحافة لكن السلطة تظل كما كانت لا تتناوب إلا بحسبان والأحزاب ليست أحزابا والقضاء ليس مستقلا وحرية التعبير وحرية الإعلام للتنفيس لا لتحدث أثرا….فما الفائدة من حرية الصحافة إن كان لا يترتب عليها تحريك دعوى عمومية عن نهب أو ظلم ؟ وما الفائدة منها إن كانت لا تهز شعرة لمسؤول حكومي يعرف حدود تأثيرها ويعلم قوة الدروع التي يحتمي بها ..؟
أما الأحزاب السياسية فهي سر الأسرار، قوقعات فارغة، مجرد عناوين تُستنسخ نصوصها بعضها من بعضها ولا تمايز بينها إلا في أسماء الوكلاء ؛ فقد منعت فلسفة “لابول” تشريع أحزاب تحمل أفكارا سياسية “مشاكسة” وجاءت القوانين تحرمها بعناوين شتى ولهدف واحد أن لا تخرج التعددية الممنوحة عن الطريق المرسوم لها فلا تترك فرصة للدولة أن تخرج عن طاعة فرنسا……حلت القبيلة محل الحزب السياسي.
تقتضي هندسة “لابول” أن يتم القضاء تدريجيا على الحركات السياسية التي تمتلك رؤى وطنية و مشاريع مجتمعية ولها رأي مستقل عن فرنسا فأوعزت بمنع ترخيص أحزاب سياسية
للناصريين والشيوعيين والبعثيين والإخوان المسلمين بذرائع شتى وتبريرات لا تستقيم….
كان هذا القرار وحده كافيا لتخويف الكثير من الناس فنأى بعضهم بنفسه بعيدا والبعض الآخر قرر إنشاء أحزاب بأسماء مستعارة وكان كلما أنشأ حزبا يكون له موعد مع التجميد والحل والسجن……
تفرق الجميع أيادي سبأ ، فالإسم المستعار في حد ذاته يَفُتُّ من عضد الحركيين لأنه لا يستفز فيهم مشاعر الإنتماء الحقيقي للفكر ولا يستنهض فيهم معاني الإنتساب للحركة والمنع أصلا سبَّبَ نفور الكثير منهم عن حركاتهم وأضْعَفَ إلى حد بعيد أية قدرة على الكسب وانضاف لذلك حصار المنظومات القبلية لهؤلاء والإحباط العام الذي تسببت فيه “أمْرَكة” العالم فتجففت المنابع وانفرط العقد بكامله وتطايرت حباته وانتهى…..باستثناء حركة الإخوان المسلمين التي تختلف في عناوين كبيرة وكثيرة عن باقي الحركات السياسية….
فلسفة حكم “لابول” أن تفرغ الأحزاب السياسية من السياسة فيسهل تطويعها فتكون سندا ومتكأ لتجربة حكم تقوده فرنسا من وراء حجاب ، إن فشل فلا دور لها في فشله ولا تسأل عنه ولا تساءل، فهو رئيس منتخب من شعبه والشعب الذي انتخبه هو نفسه من يسائله وهو وحده المسؤول عن نجاحه من عدمه وهو الذي سيعيد انتخابه أو انتخاب غيره والنتيجة أن تستمر فرنسا في التحكم بمقدرات البلاد من خلال تحكمها في حواضن صناعة الرأي ومعامل إنتاج الأصوات وتخزينها……
تحولت الدولة من مؤسسة لخدمة الناس ورعايتهم وترشيد إنفاق أموالهم إلى ممول وراعي لمن يملك مخزونا من الأصوات كبير ولم تعد شرعية الإنجاز تهم الناس لأن الناخبين “الكبار” الوسطاء بين السلطة والصندوق ، لا يسألون عن إنجاز أصلا ولا يهمهم شيئ غير أن يفي الحاكم بما التزم به أنَّ عليه حين يوصلونه للسلطة أن لا ينسى فلانا من نصيب كبير يتناسب مع دور الجماعة في الحملة…….فهل يمكن مساءلة فلان هذا من سلطة لم تختره وإنما وفت بنصوص عقد مع قومه ؟ وهل سيهتم فلان هذا بغير نفسه وذويه ؟ ومن ذا الذي يقدر عليه؟
نحن بحاجة ماسة لإعادة التأسيس وهذا المشروع لا يمكن أن يحصل بالمنظومة التي أفسدت التجربة الأولى ولا يمكن للسلطة أن تواجه هذه المنظومة إلا في المأمورية الأخيرة ففي الأولى لا تملك الإرادة الحرة في تنفيذ ما تراه مناسبا وكل خطوة تخطوها تكون عينها على الإستحقاقات القادمة والمنظومة القبلية هي من عليها المعول والتكلان…..
فما الذي تقدر عليه السلطة اليوم في موضوع إعادة التأسيس؟ وما الذي قد يعيق سبيلها في مشروع كهذا؟
سيتحرر رئيس الجمهورية في مأموريته الأخيرة من كل الضغوط التي دأب الوجهاء على ممارستها واستطاعوا من خلالها توجيه الحاكم رغما عن توجهاته وقناعاته، فلم يعد اليوم بحاجة لمن يجمع له الحشود يوم الإقتراع ولم يعد بحاجة لمن يواجه به منتقديه ومعارضيه وهذا سيتيح له أن يؤسس لدولة المواطنة ودولة المؤسسات، وخمس سنوات قادمة ستكون كافية لوضع أسس صلبة لمشروع طموح كهذا.
لن يكون توجه الرئيس نحو إعادة تأسيس فعلي للدولة الوطنية أمرا سهلا بل عليه أن يتوقع ممانعة قوية من منظومة البرلمان القبلية والتي ينتظر أن تقف بقوة ضد أي توجه يقلم أظافر الوجهاء والنافذين وعليه أن يواجههم بحزم وإن اقتضى الأمر أن يحل البرلمان ويدعو لإنتخابات نيابية مبكرة.
سيواجه الرئيس عقبة أخرى قد تكون أصعب ما قد يواجهه مشروع إعادة التأسيس وهذه المرة من أركان النظام وخاصة المؤسسة العسكرية التي تتهيأ للدفع بأحد قادتها لخلافة الرئيس يوم تنتهي ولايته وتعول أساسا على دور القبائل والوجاهات المجتمعية في إيصال مرشحها لدفة الحكم.
ينبغي أن يكون عنوان المأمورية الدستورية الأخيرة إصلاح الإدارة وإنفاذ القانون في الجميع وتطبيق الدستور بنصه وروح نصه وتحريم كل الأنشطة ذات الطابع القبلي والجهوي والعرقي والشرائحي واعتماد خطط تنموية تهتم بالتعليم أولا مجانيته وتعميمه وتحسين ظروف القائمين على المهمة التربوية.
ثم إن البلاد تعيش في محيط مأزوم بالصراعات الإقليمية والدولية ولا بد أن تتهيأ لمواجهة أسوإ الإحتمالات من خلال بناء مؤسسات عسكرية وأمنية واستخباراتية قوية ومدها بما تحتاجه من وسائل وإمكانات والرفع من المستوى المعيشى والخدمي لأفراد جيشنا وقوانا الأمنية ليكون ضامنا للحدود وحاميا للمؤسسات.
إن محاربة الفساد محاربة حقيقية ستمكن من توفير أموال طائلة كفيلة بتمويل الخدمات الإجتماعية الضرورية للمواطنين
وينبغي للرئيس أن يدرك أن الفساد لا يمكن أن يعالج بمفسدين وأن ضخ دماء شابة تؤمن بالدولة ولا شيء سواها هو وحده الكفيل بإنجاح مشروع إعادة تأسيس الجمهورية.
لقد فشلت كل الأحزاب السياسية باستثناء “تواصل” الذي له من عوامل القدرة على البقاء ما ليس لغيره وله من السند ما تفتقره جميع الأحزاب الأخرى وقد آن الأوان لدراسة أسباب هذا الفشل وإصلاح المؤسسة الحزبية وتفعيلها لتكون منظومة برامج لا حقائب بيد أفراد..