لا شك أن سؤال “التنمية في موريتانيا” أخذ نصيبا مهما من آراء الخبراء و المهتمين الأوفياء ، لكن فشل العلم و التنظير و العقول في بلدنا ، يلزمنا بالبحث عن طُرُق أخرى و قاموس أسماء آخر للأشياء و معادل موضوعي كاريكاتيري لكل حالة مستعصية ..
كل شيء في بلدنا يولد ثائرا و يموت خائنا . و كل كذبة في بلدنا تلبس ثياب انقلاب عسكري ؛ إذا نجحت تصبح بطولة وطنية لا تطال و إذا فشلت حوكمت بالخيانة العظمى و زعزعة الأمن و العمالة ..
الخبراء و المنظرون يرتكبون دائما خطأ التفسير لما لا تفسير له و خطيئة التعميم ، متناسين أن اتهام الجميع هو عدم اتهام أي أحد..
ما يحدث في موريتانيا لا يشابه أي شيء و لا يقاس بأي شيء و لا يخضع لمنطق و لا يبرره غير الاستهتار بكل قيود القيم و الأخلاق و الأعراف المكبِّلة للسلوك البشري ..
ليس الفساد المالي الذي يشترك الجميع فيه بوعي أو بغير وعي ، بقدر أو بآخر و يستوي بحديث “النيات” من يفعله و من يرابط على الخط الأمامي للاستعداد لفعله ، هو أخطر ما نواجهه ؛ الفساد المدمر هو الفساد الحاقد .. الفساد المنتقم .. فساد عقدة الدونية .. فساد من يتمنون استمرار الفساد لتظل الحاجة إليهم أكبر .. لتظل مهاراتهم فيه أهم المواهب ..
على من يعتقدون أنهم كسبوا معارك المرحلة و أنهم استطاعوا أن يُؤَمِّنوا خطوطهم الخلفية و يدفنوا فسادهم تحت رمال النسيان ، ليعودوا إلى الواجهة أبطالا منتصرين ، أن يتأكدوا أنهم واهمون.
الزمن و مفسدوه في بلدنا لا يتغيرون لأنهم يدورون في حلقة مفرغة ، لم يفهموا أنها مصيدة في انتظار مرورهم الأخير ..
و للخروج عن أحكام الخبراء و المهتمين ، مع ثقتي الكاملة في وفائهم و قدراتهم و مهاراتهم و تجاربهم الهامة ، سأقول فقط إن نوعين من الفساد المدمر عرفتهما بلادنا في عشرية الشؤم و في ما مضى من العشرية الحالية ، يرتبطان بالتجار و رجال الأعمال أكثر من موظفي الدولة ، نسفا الإدارة و دمرا اقتصاد البلد :
– في عشرية الشؤم تم استنزاف خيرات البلد و تحويلها إلى الخارج في عملية ممنهجة جُنِّدَ لها جيش من العملاء تم تزويدهم بجوازات سفر دبلوماسية (على مرأى و مسمع من الإدارة) ، فعاثوا فسادا في البلاد بلا رحمة و تركوها خاوية على عروشها ..
– و في ما مضى من هذه ، تبلورت ظاهرة أخرى لا تقل خطورة ، أصبح الجميع يتساءل بسببها ، أين ذهبت السيولة ؟
فقد ابتكر التجار و رجال الأعمال ، في غياب أو تعامي الإدارة ، طُرُقا للتهرب من الضرائب ، لم تصل قط إلى هذا الحد في أي بلد ..
تاجر أو رجل أعمال يأخذ مبلغا ضخما ، يودعه لصرَّافة (تكون عادة له أو للأسرة أو لأحد أصدقائه أو شركائه المؤتمنين) ، يذهب إلى الصين أو الهند أو تايوان أو دبي ، يستلم المبلغ من فرع نفس الصرافة في ذلك البلد ، يشتري بضاعة رديئة و مغشوشة (تحت الطلب) ، يحملها إلى البلد ، يستغل علاقاته الواسعة و نفوذ معارفه (مُعَبَّد الطريق) ، يحملها إلى محل في شارع الرزق أو إحدى ضواحيه ، تجده جالسا فيه على قطعة كرتون متهالكة رغم جبل ثروته المخفي في خزائنه المدفونة في شبه طابق أرضي من بيته المتواضع ؛ تاجر كبير أو رجل أعمال تُعد ثروته بالمليارات ، لا يدفع الضرائب و لا يعمل عنده سائق و لا حارس و لا معاون ، لا تدخل ثروته الهائلة دورة اقتصاد البلد من أي ممر إجباري !!!
أليست هذه كارثة اقتصادية حقيقية ، هي حتما ما يبتلع السيولة في لغز بلا حل ؟
تنضاف إلى هذين النوعين من الفساد القاتل ، عمليات تهريب الذهب المسكوت عنها في ما يبدو أنه “عمل مسكوت عنه فقط بلا أي تفسير آخر” ، تماما مثل انتشار بورصات السيارات التي تغص بها كل المساحات الفارغة بالعاصمة ، في ما يربطه الجميع بغسيل الأموال و الإثراء غير الشرعي ، أستغرب جدا أن يكون كل أصحابه محميين و أستغرب أكثر أن لا يكونوا كذاك وهم بهذا الحجم !!؟
و لست اقتصاديا و لا أفهم من الليبرالية سوى أنها جريمة غربية فُرضت علينا لنهب ثرواتنا ، لكنني متأكد أن هذه البنوك التي أصبحت فروعها مثل كيوسكات التبغ في كل زقاق من العاصمة ، ليست حالة إقتصادية صحية و بالعودة إلى تاريخ أصحابها (في تراث عشرية الشؤم) ، أستطيع أن أجزم أنها لا يمكن أن تكون سوى جريمة من تراث العشرية الخالد ..
و ما يمكن أن أؤكده أكثر بقسم مغلظ ، أعرف جيدا ثقله في الميزان ، هو أنه لا يوجد موظف موريتاني يعيش من راتبه حتى لو كان رئيس الجمهورية ، يستطيع أن يشتري سيارة (Tx أو Vx أو رنج …) من راتبه ..
أما امتلاك الفلل الناعسة و الشقق الفاخرة المؤجرة و المحلات التجارية الراقية ، فهذا هو البغي الباطر ، المتحدي لشعور الجميع و أول الجميع هي أجهزة رقابة الدولة الأفسد من الجميع و أبطر من الجميع ..
على رئيس الجمهورية اليوم أن يفهم أولا أن أجهزة الفساد لن تخبره عن فسادها .. أن يفهم أن الفساد ملة واحدة .. أن محاربة الفساد في البلد أخذت شكل حرب المدن أو حرب العصابات .. أن يفهم أن رئيس قسم في سوملك (مثلا أو تمثيلا ) ، لا يمكن أن يسرق من دون رئيسه و محاسبه و أن رئيسه لا يمكن أن يسرق من دون مديره و أمينه العام و أن مديره لا يمكن أن يسرق من دون حماية رقابة الدولة و أن رقابة الدولة لا تستطيع أن تحميه من دون تواطؤ وزارة الوصاية و أن الوصاية يا فخامة الرئيس لا يمكن أن تتواطأ مع دائرة هذه الحلقات المغلقة ، من دون إسناد ظهرها في فخامة رئيس الجمهورية الذي يحجبون عنه نصيبه من الكعكة ، مقابل التشهير بتخليه عن كامل مسؤوليته من خلال دعايتهم الغبية : “طبقا للتوجيهات النيرة لفخامة رئيس الجمهورية” أي أن كل هذه السلسلة من الجرائم تمت بتوجيهات “نيرة” من فخامتكم و في كل القطاعات الفاسدة ، المحتمية كلها بهذه الإساءة البالغة لفخامتكم ..
هذا التفنن في اللعب على عقول الناس ، أصبح غواية تمتدح الجميع بما يعاب به أي مسؤول في العالم : كيف تحاسبون موظفا فاسدا يكرر على مسامعنا ليل نهار أن كل ما يفعله “طبقا للتوجيهات النيرة لفخامة الرئيس” ؟
لقد تآكلت و انكشفت جريمة هذه العبارة العابرة لكل حدود عدم اللباقة ؛ أما آن لها أن تستفيد هي الأخرى من حقها في التقاعد ، إذا لم تكن من المحنطين في المقاعد الأمامية ، المحصنين من التقاعد ، المتفهمين بارتياح لاستثناء أترابهم !!؟