إذا لم يكن النظام الحالي يستحق موقفي منه ، كما يريد البعض جَرِّي إلى قوله و أحيانا إلى فعله (بإلحاح) ، فإن وطني يستحقه !
– أدرك جيدا أن أكثر وزراء هذا النظام و مدرائِه و رجالِ أعماله يكرهونني حد البغض و يتمنون لي جزاء سنمار ..
– أدرك جيدا أن لا مكان لمثلي في بلد يحكمه المفسدون و المنافقون الذين أمضيتُ جل عمري في جلدهم و كشف جرائمهم و التحقير بهم ..
– أدرك جيدا أن نظام ولد عبد العزيز الذي أمضيتُ عشرَ سنين في جلده فردا فردا ، ما زال يتحكم في جل مفاصل الدولة !
– أدرك جيدا أنهم ليسو مهيئين مِهَنيًّا لإدراك أُرجوحة الصداقات و العداوات في السياسة ..
– أدرك جيدا أنهم يتغذون على الوشاية و بها يبررون وجودهم و حراستَهم لِحِمَى النظام الذي يسيؤون إليه أكثر مما يفيدونه..
– أدرك جيدا أنني أكبر هدف على لائحة المافيا المتحكمة في كل شيء في البلد من أشباه مسؤولين و أشباه سياسيين و “أشباح” صحافة و من تجار الموت و من سلطات لم تجرب عبقريتها يوما في غير التسلط على مواطنيها المغلوبين على أمرهم ..
– أدرك جيدا أكثر من هذا كله بكثير ، مما لا أريد (و أحيانا ما لا يليق) الكلام عنه الآن ، لكن كل هذا :
لكنني أرى بوضوح (هناك في آخر النفق) ، أن كل الأنظمة زائلة و يبقى التاريخ . و لن يرحم التاريخُ من لم يرحموا أنفسهم..
إذا عشت فقيرا مهمشا على قارعة الحرمان ، سيكفيني أن أموت غنيا بقناعتي و كرامتي و صِغَرِ المُنتصرين على “حماقاتي” ، في أعيني ؛ لا أستجدي شفقة أي أحد و لا أتسوَّل عطف أي آخر و لا أصحو كل يوم مرعوبا من تَوَقُّع مفاجأة تمحقني ..!
قد يحاول البعض إذلالي .. قد يتمنونه .. قد يسعون له بكل جهودهم التآمرية الماكرة ، لكن كرامتي ستظل بيدي لا بأيديهم و حقارتهم ستظل على ألسنة الجميع لا يملكون وسيلة لكبح جماحها ..
أعي جيدا أنه من الطبيعي أن يكون الإحساس بقدسية الشأن العام و بالحرج التاريخي ضعيفا في نفوس البدو و تلك مشكلة ثقافية ، يضيق المقام عن شرحها هنا ..
عدائي للمفسدين لا تهزه مبررات الإداريين المتذاكين ، المتقمصين أدوار الضحايا ، الجالسين على جبال من الفضائح المشهودة و التبريرات المكذوبة و الملحقات الإجرامية و الصفقات غير المعلنة و تنفيذ المهام الشفهية القذرة و التعليمات غير الشرعية و التبجح بمهارات الخداع و الشطارة و التحايل على القانون . يقول علماء النفس إن التبرير “حالة من العجز يعيشها الفرد ويحاول التستر خلفها حتى لا ينكشف ضعفه المتأصل في ذاته القلقة (…) و هذا يفقده انسجامه الذاتي؛ لأنه في الواقع يعيش حالة من الحرب النفسية الداخلية هو فيها الجلاد والضحية…
ربما كنت أسيرُ عكس تيار هذه الفوضى العارمة ، لكن جميع أعدائي يسيرون عكس تيار الزمن و منطق الزمن و حتمية الزمن ..
لقد حكم أبو الفساد (ولد الطائع) أكثر من عشرين سنة و ما زال له أتباع كثرٌ في البلد بعد عشرين أخرى ، لأنه استخدم العقول و الخبرات و المهارات و كانت له رؤية للتاريخ يُكبِرُها البعض و يسخر منها البعض (و أنا منهم) و عجز كل من جاؤوا بعده أن يتركوا ذكرى طيبة أو صداقة وفية أو حالة إعجاب و لو عن عدم إدراك ، لأنهم اعتمدوا على الانتهازيين و المتزلفين و غلمان الموائد. و هؤلاء لا أمان لهم و لا وفاء لهم و مصلحتهم مع من يأتي حتى لو كانوا لا يعرفونه ، لا مع من يغادر حتى لو كان وراء بحبوحة الرخاء التي يعيشون فيها دون وجه حق ..
يكفيني شرفا و راحة بال أن أظل متصالحا مع ذاتي وفيا لديني و وطني ، بما أتمنى أن يرضي ربي و يفهمه يوما منصفو بلدي ..
يكفيني سعادة أن أعيش كما أتمنى :
– ليس في حياتي ما أخفيه ..
– ليس في حياتي ما أتحاشى إثارته ..
– ليس في حياتي ما يخجلني ..
ليس في قلبي غل لأحد و لا شفقة على مفسد يعيش على شقاء شعب يطحنه الفقر و المرض و التخلف و الحرمان ..
و يكفيني أن يظل بُغضُ الآخرين لي ضريبة صراخي بما يقف الجميع دونه جبنا و تذاكيا و تشبثا بمهنية لا يتذكرونها إلا لتبرير الخوف و التطبيع مع كل ما يحفظ مصالحهم ، الكاشفة لوعكتهم الصحية ..!!
يكفيني أنني التقيت خيرة رجالات هذا النظام و أفضلهم و أنبلهم و أصدقهم و أوفاهم للوطن و حُظيت باحترامهم و تقديرهم و البقية عليهم (كما أراد الله) ، أن يظلوا بقية !!
يكفيني اطمئنانا على الوطن ، أنني اكتشفت أن ما زال فيه رجال على مقاس المسؤولية .. ما زال فيه رجال مؤتمنون على مصالحه .. ما زال فيه رجال يمثلون قمة النبل و الصدق و الوفاء و المسؤولية ..
ما زالت في هذا البلد بقية من رجال الفتوحات .. بقية من أبناء الصحابة .. بقية من أخلاق الزمن الأجمل …
فلا تخافوا تحكم الأنذال .. لا تغركم أبهةُ المزيفين (بفتح و كسر الياء) .. لا تصدكم آلام الواقع العضوية :
الأنذال قد يكسبون معركة .. قد يتوهمون انتصارا .. قد تغرهم لحظة نشوة ، لكنهم لا يكسبون الحروب و لا يملكون القناعات العظيمة التي غيرت تاريخ البشرية ، لأنهم لا يَعتبِرون من صَبر الرُسُل و لا يغارون من صدق الصحابة ..
لا تخافوا كثرة الأنذال ، فقد ارتبطت نهايتهم عبر التاريخ بانتفاضة أقلية الشرفاء ضد وقاحة أزمنتهم الهشة ..
الأنذال يمحقهم الجبن .. يدمرهم الكذب .. يُسقطهم النفاق من أعين الجميع .. يُذلهم الطمع ..
الأنذال يبحثون دوما عن من يُنقذهم .. عن من يُلبِسونه ثوب ورطتهم .. عن من يحميهم من سوء عاقبة شرورهم ..
الأنذال مثل شجرة الجن (تُورْجَ)، تملأ المكان في غفلة من الجميع .. تعافها المواشي .. تقشعر منها أجساد البشر و لا يستظل بها غير مفلس أخطأَ كل الحسابات ..
أرجو في الأخير ، أن يعذرني الجميع ؛ فقد كتبت هذا المقال تحت قهر انفعالاتي الوطنية الآسرة و آلام جراح غزة الصامدة و دروس يومياتها الأسطورية ..!