أعي جيدا أن ما سأقوله هنا سيغضب كل من يحاولون افتعال أزمة من قضية الضحية (لأنهم أعداء للبلد).
كما أعي أنه لن يرضي أهله و أقاربه (لأنه قد يضع سقفا لمطالبهم) و لن يرضي طبعا من يصطادون في المياه العكرة لنبش عداوات مع هذا الطرف أو ذاك (لأسباب انتقامية قد ندركها و قد لا ندركها)..
لكنني تعودت في حياتي أن أدفع ثمن الحقيقة و هي مهمة صعبة لمن لا يتألم لما يحدث في هذا البلد من عبث و مغالطات ، تجد دائما من يصدقونها من الجهلة و السذج و المتواطئين و الماكرين و الخونة :
1 – من دون تبرير درجة العنف التي تعامل بها الجناة مع الضحية (التي لا أعرف الظروف التي أملتها و لا هل كانت فعلا أو ردة فعل)، أقول إن للضحية نصيب من المسؤولية في ما حدث : على الجميع أن يفهم أن مقاومة أفراد الأمن لا تحق لأي أحد *مهما كانت الأسباب* ؛ إذا أوقفوك توقف .. إذا وضعوا الأغلال في يديك أطع .. إذا ظلموك استجب …
هذا لا يعني على الإطلاق أنهم على حق و لا أنهم مطلقو الأيادي في أن يفعلوا في الناس ما يشاؤون ، لكن ليس أنت من يؤدبهم و لا تعرف أي أوامر لديهم و لا من يأمرهم و لا لماذا يأمرهم : نفذ ما يطلبون منك بطاعة و اشتكي إلى الجهات المسؤولة ، إذا كنت تعتقد أنهم ظلموك .
لو كان الضحية استجاب لما طلبوا منه (و هو مُلزَمٌ قانونيا بالطاعة لأمرهم) ، لما وقع أي شيء مما حدث و لكان من حقه أن يشتكي إلى الجهات المسؤولة و كان من واجبنا أن نقف جميعا معه.
2 – على الجميع أن يفهم أن إدارة الأمن ليست القضاء و لا الطب الشرعي و مهمتها الأولى هي استتباب الأمن و احتواء الأزمات *بأي طريقة* ، لا سيما المفاجئة منها كالتي نتحدث عنها ، بما خلقت من إرباك قبل الوقوف على حقيقتها . و قد أدارها المدير العام للأمن بأعلى درجات المسؤولية و الحكمة و الحنكة و التأني و ضبط النفس ، رغم ما احتوته من شائعات مغرضة تستهدف شخصه بدرجة عالية من الوقاحة و أقل قدر من تحفظ أو لباقة. و له أرفع قبعتي هنا عاليا (و يعرف الجميع أنها ليست من عادتي حتى مع من يستحقونها بجدارة) ..
3 – لا يجب أن نقف مع الحق بالباطل : هذه القضية لا تعني السلطة إلا في تبعاتها (فتح تحقيق نزيه و شفاف و معاقبة الجناة)..
كل ما تفعله السلطة خارج هذا الإطار هو تكرم منها و هو مطلوب و مشكور ، لا لأن لها أي ضلع في ما حدث و إنما لأنها مسؤولة عن آلامنا جميعا كمواطنين و لأنها هنا أمام حالة إنسانية بالغة الألم و الاستثانية .
4 – على الجميع أن يفهم أن السلطة ليست مسؤولة عن أخطاء وكلائها ، لكنها مسؤولة عن تبعاتها (عدم حمايتهم إذا تجاوزوا القانون و تأديبهم إذا فعلوها كأي متجاوز للقانون) و يظل التشديد و التخفيف في هكذا حالات من كامل تقديرات القضاء وحده..
ما حدث مهما كانت بشاعته لا ينبغي أن يسميه جريمة ، من لا يعرف الأسباب الحقيقية للتعامل مع الضحية بهذه الدرجة من الخشونة ، هل كانت بسبب سلوكه كردة فعل (و هو احتمال قائم) أو كانت رعونة مجانية من فرقة الشرطة (و من الصعب أن نتخيل مثل هذا الجنون الجماعي ، حتى لو كان كل شيء وارد) .
و بين هذا و ذاك تكمن التفاصيل الصغيرة التي من دونها لا يمكن أن نصدر أي حكم موضوعي ذي قيمة ..
ليست مهمتنا أن نحتل مكان القضاء و لا أن نبرر ما لا يُلزَم بتبريره ، لكن مثل هذه القضية يحصل كل يوم في كل مكان من العالم من دون أن يعني غير مرتكبيه من الطرفين ؛ فلماذا في موريتانيا وحدها يتم هذا التهويل : صراخ منظمات حقوق الإنسان و بيانات النقابات و الدعوات المغرضة للتظاهر و اتهام السلطات و تشويه القضاء و تحدي الأمن؟
على السلطات الموريتانية أن تفهم أن هذه عصابات مرتزقة تعيش على ابتزاز الأنظمة و بالتعاطي معها و احترامها و تجاوز جرائمها ، أصبحت السلطات الموريتانية أكبر صانع لأعداء البلد و أول حاضنة لها. هؤلاء يخيروا (كما يحدث في العالم كله) بين أن يعتذروا علنا للشعب و البلد عن خيانتهم أو يُخرجوا منه أذلة صاغرين.
على من يفضلون أن يكونوا عبيدا لفرنسا و بلجيكا على أن يكونوا أحرارا في بلدهم ، أن تتوسط لهم السلطات للحصول على تأشيرات للعيش على أرصفة التشرد بين من يعتبرونهم دون الحشرات بآلاف الدرجات..
إن كشف هذه الحقائق أمام العالم هو وحده السبيل إلى تعرية جرائم فرنسا في حق البلدان الإفريقية : هل يستطيع ميلانشون أو لوبين أو غيرهما أن يقول “إذا قلتُ أن تُضرب الشرطة ، تُضرب .. إذا قلت أن يحرق الدرك ، يُحرق .. إذا قلتُ أن تحرق نواكشوط ، تُحرق” ؟
لو كان بيرام اليوم خلف القضبان بحكم لا يقل عن خمسين سنة مع الأعمال الشاقة ، كما يفعل العالم أجمع مع أمثاله ، لما تجرأ محمد لمين سيك على ما قام به من تحريض فضحته بلادته..
جريمة قتل الصوفي ولد الشين (على بشاعتها و مرارتها و مأساويتها) ، تحصل كل يوم في كل مكان من العالم مع الأسف ، لكنها لم تأخذ هذا الحجم في أي مكان !!
– هل يعود ذلك إلى نقاء فطرتنا ؟
– هل يعود لتلاحم و تراحم و تضامن شعبنا؟
هل يعود لبشاعة نظامنا و فساد قضائنا و انحراف أمننا؟
كل المعطيات الأولية تفيد بأن التحقيق سيكشف عن حقائق تنزع البطولة و النزاهة و الاستقامة عن الكثيرين..
مع ذلك و رغمه ، يظل ما حصل من إنصاف و تكريم و تخليد و تعاطف مع ذويه من كرم السلطة و كل فاتورة هذا الجهد المدفوعة من رصيد النظام ، يعود فضلها لأعدائه و أعداء الضحية ؛ نضال بيرام و ضغوط منسقية منظمات حقوق الإنسان الإفريقية في بيلباو (إسبانيا) و تهديد محمد لمين سيك و كلها عناوين ارتزاق و ابتزاز ، لا يعيرها أي قيمة (في الداخل و الخارج) غير النظام الموريتاني ..
– سلام على روح الفقيد ولد الشين ..
– شكرا لكل من ساهموا في تشييع جثمانه من غير المشنعين ، المحرضين ، الخونة
– و تحية تقدير و احترام لكل من أداروا هذه الأزمة المفتعلة (على عدة جبهات) بذكاء و شجاعة ، في صمت و هدوء ..