تستعد بلادنا اليوم لدخول سلسلة انتخابات معقدة (البلدية و النيابية و الرئاسية) ، في أوج تشرذم نخبها و ترهل إدارتها و استياء مواطنيها و تمزق وحدتها و تخبط أحزابها و شذوذ الممارسة السياسية فيها …
و يعتبر غياب الثقة بين المواطن المستباح و هيام السلطة المشغولة بإبرام صفقات التراضي و ضبط نِسب عُمولات الاستحقاق ، الناتج عن هذا الوضع المزري ، المخجل ، العجيب ، الغريب ، هو المانع الجامع ، لتشكيل أي رؤية واضحة لساحة الآمال المحبطة و الآلام الآسرة..
تأتي هذه الانتخابات في ظل تحكم كل مافيات البلد في واجهة الحياة (الإدارية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الإعلامية)..
و في غياب شعور النظام بكارثية هذا الوضع ، و اعتباره (ازدراء بالجميع)، حالة عارضة يمكن احتواؤها في أي لحظة، تتوالد باكتيريا الفوضى في مستنقع الأطماع “السياسية” الآسن ، بما يحتاج إلى من يدرك (بحس سياسي ناضج)، إفلاس من لا يفكر في غير الحلول الأمنية ، مجربة الفشل في كل الحالات المماثلة..
إن عودة عصابة عشرية الشؤم المتهمة (لدى المحاكم و في تقرير اللجنة البرلمانية و تحقيقات شرطة الجرائم الاقتصادية) ، بقضايا فساد من العيار الثقيل ، يتجاوز أكثرها الخيانة العظمى و خيانة الأمانة و التلاعب و الاستهتار، إلى واجهة المشهد السياسي و تقلدهم أسمى وظائف الدولة ، دفعة واحدة ، في تزامن لا يخفي أسبابه ، مع إطلاق سراح رئيس العصابة و تحييد مناوئيه من واجهة حزب (المرجعيات ، الخالية من أي معنى للمرجعية) ، ليست القطرة التي أفاضت الكأس بل كانت الإعصار الغائر الذي دمر كل آمال النخب داخل النظام و خارجه و هز صورة الحكم و فتح الباب على مصراعيه لكل القراءات و التصورات و التكهنات المحبطة..
إن من يتحدثون اليوم عن إطلاق سراح عزيز “احتراما لمسطرة الإجراءات القانونية” ، هم تماما كمن يعتقدون أن فريق الفساد المتهم في نفس الملف ، لا تستغني الإدارة عن فساده لتنفيذ تعهدات فخامة رئيس الجمهورية “الإصلاحية” ..
إن قوة ولد الغزواني (كما يسوق من يدعون أنهم من العارفين به)، في رفض الأحكام المسبقة و رفض تصفية الحسابات لكن أيضا في مراجعة القرارات الخاطئة و الاعتذار عند الحاجة ..
و رغم أنه لا مكان و لا معنى للأحكام المسبقة في ما قدمته تقارير اللجنة البرلمانية و أكدته شرطة الجرائم الاقتصادية و أعرض قضاؤنا (الذي يحتل عالميا المرتبة 140/139 ، حسب آخر التقارير الدولية) ، عن تنفيذه ، في عملية فرز أقرب إلى ومضة كوميديا سوداء (في مشهد كامل)، منها إلى أي شيء آخر ..
و رغم أن لا شيء أعدل أو أوجب أو أورد اليوم ، في هذا البلد ، من تصفية الحسابات ، بكل معانيها..
و رغم أننا لم نشهد خلال هذه السنوات الثلاثة التي لم تختلف عن سابقاتها في غير جموح أحلام الأبرياء ، مراجعة أي قرارات خاطئة و لا الاعتذار عن أي خطيئة مهما كانت بشاعتها تماما كما لو كنا أمام “تصرف المالك في ملكه” ..
رغم ذلك كله، ما زلنا جميعا في حيرة مما يدور في رأس ولد الغزواني ، حين يدير الظهر لكل من أوصلوه الحكم و يعتمد في بقائه ، على عصابة الفساد التي كانت مواجهتها المبرر الأوحد لانتخابه.!
الناس في هذا البلد يا ولد الغزواني ، لا تظلم أكلة المال العام و لا تطالب بتصفيتهم خارج القانون و لا بمطاردة السحرة في حقهم ، لكنها لا تستطيع التعايش مع تكريمهم و إعادتهم إلى مواقعهم في نظام ، كانت آمالهم معلقة في وعوده .. في اختلافه المتمثل (بالصريح المعلن) في القطيعة مع نهج استباحة سلفه.. قطيعة مع كذب دعايته .. قطيعة مع احتقاره للشعب .. مع تحديه للشعور العام.. مع اعتقاده الخاطئ بأنه في منأى عن أي محاسبة..
ليس هناك من يطالب بمعاقبة كل موظفي الدولة و لا من يتهم الجميع بالفساد : إن ما تريده الناس واضح و جلي و يعرفه الجميع و يعرفه فخامة رئيس الدولة نفسه الذي يعود اليوم إلى دفتر عناوينه لاستدعاء من تنكر لهم منذ وصوله الحكم ، لإنقاذه من مأزق أخطائه المتواصلة..
إن التذرع بخبرات المفسدين، عذر أقبح من كل ذنب: لا خبرة لأي منهم في غير الفساد و تبرير أسبابه و قلب حقائق توسعه و الدفاع المستميت عن تعميمه و استمراره..
لم يعد من المقبول أن يختار رئيس الدولة من يصرخ الجميع بفسادهم و ماضيهم الأسود ، ليخرج إلينا غدا من يردد في دفاع مستميت عن فخامته ؛ الرئيس لا يمكن أن يبني الدولة وحده و هذه مشكلة بطانته ..
الرئيس وحده هو من يتحمل كامل مسؤولية بطانته و هو وحده من يحدد اتجاه مشروعه و توجهاته من خلال اختيار بطانته . بل ما كان للرئيس أصلا، أن تكون له بطانة ، إذا لم يكن اعترافا صريحا بأننا مازلنا نعيش في العهود الغابرة.
موظفو الدولة لا ينبغي أن يكونوا بطانة الرئيس و لا عمالا في مزرعته: هذه المفاهيم الخاطئة ، المتخلفة ، أصبح تكريسها في الواقع ، مفخرة رؤساء البلد الفاسدين..
و هذا ما يجعلنا نصرخ اليوم بأعلى أصواتنا ، ليس هذا ما كنا ننتظره منك يا فخامة الرئيس..
ليس هذا ما وعدت به الشعب في حملتك ..
ليس في هذا يا فخامة الرئيس أي تفسير مقبول لـ”معنى العهد” و لا لـ”تعهدات” يمكن فهمها من خلال أي شيء على أرض الواقع..
لا بارك الله في أي عهد لا يصون مصلحة الوطن و يضمد جراح مواطنيه النازفة..
لا بارك الله في عهد لا يحمل في طياته غير حماية بارونات الفساد و تحكمهم في أرزاق شعبنا المجوَّع ..
لا بارك الله في تعهدات لا يُنصَفُ فيها ضعيف و لا يحاسب فيها قوي..
لا بارك الله في عهد لا يخاف أهله الله و لا يرحمون الناس.
ما زالت حتى اللحظة، كل فرص تصحيح المسار قائمة..
ما زالت الناس مستعدة لنسيان الكثير، إذا تبلورت ملامح عملية إصلاح جادة ..
ما زالت الظروف مواتية لنهضة حقيقية تخرج البلد من مأزقه..
لكن أيضا و أيضا ، ليس بهؤلاء الوزراء الفاسدين .. ليس بهذه الوعود العرقوبية .. ليس بهذا الازدراء بعقول الناس ..
ليس بهؤلاء الأمناء العامين ..
ليس بهؤلاء المدراء ..
سيدي الرئيس ، يوجد في كل إدارة أطر أكفاء أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن، تنساهم كل القرارات الفوقية.. و تحتقرهم كل التعيينات السياسية :
لماذا يتم تعيين مدير ، لا يفرق بين الجيولوجيا و الجيوبوليتيك على اسنيم و بها آلاف المهندسين الأكفاء ، خريجي أفضل جامعات العالم بامتياز و بتجربة عشرات السنين في المجال؟
إلى متى تدمر بلدنا المستباح ، مثل هذه الاعتبارات بينة الشذوذ و القصور و الاستهتار؟
ليس من بين هذه المافيا الحاكمة ، المتحكمة في كل إدارات الدولة (إذا استثنينا قلة ، أملت تعيينها توازنات مريضة ، لا كفاءات أصحابها) ، أي كفاءة علمية و لا أصحاب مسؤوليات أخلاقية و لا دينية و لا اجتماعية ، إذا اعتبرنا “جربوهم بالدراهم” ، منطلقا للحكم على حقيقتهم المخجلة..
أليس من واجبنا و من أقل حقنا اليوم، و نحن أمام انتخابات أجمعنا أن تكون الفيصل في اختيار من يتولى مسؤولية الحكم فينا ، أن نغير ما بأنفسنا ، عسى أن يقيض الله عز و جل لبلدنا الطيب ، رئيسا قانعا ، لا يبيع و لا يشتري ، لا يأخذ العمولات و لا ينافس على الصفقات ، لا يشيد القصور و لا يتدخل في منح الصفقات ، بلا أقارب يستعذبون ركوب الناس و لا منافسين في الأسواق بشروط اللجوء السياسي ، لا يُظلم في عهده أحد و لا يستثنى آخر من العقوبة ، لا بصداقة و لا قرابة و لا تدخلات …
أليس من حقنا اليوم ، بعد ثلاث سنين من الصمت ، لم تكن تختلف عن سابقاتها في غير أسماء أبطال فسادها (على طريقة Adax)، أن نسعى و نتمنى أن يمن الله على بلدنا الطيب برئيس منزه عن كل عيب ، بلا بطانة و لا لوبيات و لا حزب دولة ، يؤله كل من يعتلي كرسي الحكم ؟
رغم كل هذا ، ما زال أملنا في أن يتدارك غزواني أخطاءه الفادحة ، بلفتة صادقة إلى مطالب الشعب المتلخصة ، لا في نهضة اقتصادية مبهرة و لا في إنجازات عملاقة ملموسة و إنما فقط في بلورة إرادة صادقة ، بإشارات يمكن فهمها ، لتوجه واضح لإصلاح مسؤول ، لا يحاول إقناعنا فيه بتكريم المفسدين ..
على ولد الغزواني “الآن الآن و ليس غدا” أن يختار بين الشعب الموريتاني و رموز الفساد ..
و عليه هو أن يقتنع بأنه لن يستطيع أن يقنعنا بالتعايش مع المفسدين ..
و عليه أن يفهم أن قانون رموز الفساد لن يحمي الفساد و لن يبني على أرضنا مجدا المفسدين ..
و صحيح أننا اليوم البلد الأكثر فسادا على وجه الأرض ، لكن هذا ما يهز عروش المفسدين على أرضنا و ليس العكس ..
و الأيام بيننا ؛ فالتاريخ لم يسجل قط انتصارا للسابحين عكس التيار..