نسمع في لهجتنا الحسانية ألفاظا كثيرة تدل على التقييم والضبط من قبيل النفݣة، والمد والبيصة والرطل وشاة الدية، والمثقال… وغير ذلك من الألفاظ الدالة على المَعْيَرة والتحديد. وكانت للأوائل مصطلحات كثيرة في تقسيم الزمن وفي تحديد المكاييل وفي ضبط المسافات. فللأوزان في اللهجة الحسانية مصطلحات تضبط مقاييسها، وللسوائل طرق معيرتها والوحدات التي تضبطها والتي تبدأ من الأصغر صاعدة حتى الأكبر، كما أن للزمن وللمسافة اصطلاحات كثيرة.
والواقع أن وضع معايير لضبط الأمكنة والأزمنة، وتحديد المكاييل من أوزان وسوائل، ووضع مصطلحات للوحدات النقدية وكل ما ينضبط به التبادل التجاري إنما هي طرق لإدراك العالم من حولنا وتنميطه والتحكم فيه تقييما وتقطيعا وتجزيئا. واللغة الحسانية لها معجم واسع في هذه الحقول الدلالية، ولها مصطلحات كثيرة ومتنوعة في هذه المجالات التي تفرضها الحياة على الإنسان.
وهذا الموضوع قد تناوله قبلنا باحثون موريتانيون وفرنسيون، وتطرقت له بعض الوثائق الموريتانية القديمة، ومن أبرز من تناوله الإداري الفرنسي الشهير بول ديبييه (Paul DUBIÉ) في مقاله “العملات والمقاييس البيضانية”. كما تناوله الباحث الجاد آلبير ليريش (Albert Leriche) في مقاله “المقاييس البيضانية”، وتعرض المؤرخ الجليل المختار بن حامدٌ رحمه الله تعالى لجانب منه في موسوعته التاريخية، كما نجد منه إشارات هناك وهناك في بعض النصوص التاريخية الموريتانية وفي الكثير من الوثائق التي بحوزتنا. وقد جمعنا أغلب ذلك وعرضناه على بعض الرواة وبعض العارفين والعارفات بالثقافة التقليدية، فمحصنا بعضه ونقلنا بعضا كما ورد، وكانت خلاصة ذلك هذا العمل. وسنحاول التطرق لبعض ذلك دون استقصاء ولا استيعاب.
أولا: المكاييل والأوزان
يختلف معجم الحسانية المتعلق بالأوزان والمكاييل بحسب نوع المادة المراد وزنها، فللحبوب مصطلحاتها الكيلية الخاصة ولكل من الدقيق والملح والشاي اصطلاحات خاصة، وهو أمر يدل على الاتساع في المصطلح وتعدد الزوايا التي يرام من خلالها تحديد الشيء.
مصطلحات وزن الحبوب:
بالنسبة للحبوب تستعمل الحسانية الكثير من وحدات القياس ومن أبرزها وحدتان وهما: المد و”النفݣة”، والمد لفظ حساني ذو أصل عربي فصيح وجمعه “امْدوده” وهو وحدة قياس قديمة مشهورة في شتى الحضارات ومعروفة في الكثير من اللغات، ويطلق المد في العربية على مقدار من الكيل معروف.
ويطلق الموريتانيون في جميع المناطق المد على أربع “نفݣات”، غير أن “النفݣة” يختلف قيسها من منطقة إلى أخرى. ففي ݣورݣول تساوي “النفݣة” كلغ مما يعني أن المد يساوي أربعة كيلوغرامات. وفي الترارزة تساوى “النفݣة” ثلاثة أرباع الكيلوغرام فالمد في هذه المنطقة يساوي ثلاثة كيلوغرامات. وفي الحوض يبلغ المد كيلوغرامين ونصف. وفي آدرار يوجد مد أطار ويساوي كيلو وأربعمائة غرام. ويبلغ مد شنقيط كيلوغرامين وأربعمائة وخمسين غراما ومد شنقيط شائع التداول في آدرار. أما مد تݣانت فيساوي ثلاثة كيلوغرامات ونصف الكيلو.
وقديما كانوا يقولون في تݣانت “مد سدوم” أو “مد الحرمة” وهو “نفݣتان” وأضيف إلى سدوم وهو أحد شخصيات إدوعيش كان يأخذ إتاوة على بعض المجموعات وصار ما يأخذه منهم يعبر عنه بمد الحرمة أو مد سدوم المذكور. وهنالك “مد انْبِي” أي مد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرادف لـ”مد الفَطرَه” ويذكر عند إخراج زكاة الفطر، كما يقولون “الصاع” وهو اللفظ العربي المعروف وهو أربعة أمداد من مده صلى الله عليه وسلم أي من “مد الفَطرَه”.
وإلى جانب المد و”النفݣة” هنالك وحدات أخرى من أصغرها:
“الهبژه” (بزاي مخرجها قريب من الصاد) وهي ملء اليد المجوفة أي حوالي 70 غراما. و”الهبژه” في آدرار خمس “النفݣة” وجزء من عشرين من المد (أو ربعها ونصف ثمن المد عن مناطق أخرى). وتطلق “تَوْݣلَّه” على خمس “هَبْژَاتٍ”.
أما “وُجْهْ أيدْ”: فهو مصطلح شائع في تݣانت، وقريب منه “اتݣولِيبْتْ أيد” في آدرار.
و”الحَفْنَه” ملء اليدين متلاصقتين ومبسوطتين (وهو المد كما في الفقه إذ هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين).
و”الْخَرْطَه” ملء إناء الكيل بالحبوب دون زيادة أو نقص حين يتساوى مستوى المكيل مع حافة الوعاء، وهي أقل من “التِّجْمِيمَه” حين يكون المكيل دون الحافة بقليل.
ويطلقون لفظ “اتْسَرْسِيرَه” على كمية من الحبوب تسمع طقطقتها في الوعاء، فكأنها ملء الجراب “آوِتَارْ”.
وهنالك “الݣربَه” من اللفظ الفصيح القربة وهي في الأصل عبارة عن ملء مسك الشاة ويقدر عادة بنحو خمسين كلغ.
و”الكار” ويساوي 25 مدا أي 50 كلغ، وهو من اللفظ الفرنسي (Quart).
وهناك “تَنَجْفَاغَه” وتقال في منطقة الترارزة لثلاثين مدا. ويقال إنها مشتقة من لفظ أجفغ ومعناها الشيخ والفقيه في اللغة الصنهاجية، فهي قدر ما يستطيع الشيخ حمله على ظهره.
ومن أعلى وحدات الأوزان “مَاتَه” (بميم مفخمة) وتعني أربعين مدا، وذكر بول مارتي في كتابه عن إمارة الترارزة عند حديثه عن “أباخ” أنها غرامة كان المزارعون يدفعونها لأمراء الترارزة وأعيانهم، حيث يدفع عن كل حرث أربعون مدا أي “ماتَه”. وذكر ذلك أحمد سالم بن باݣا في كتابه تاريخ الترارزة أن أمراء الترارزة يأخذون في مغرمهم “على كل حرث في شمامه يوم حصاده أربعين مُدا من الزرع، ويسمون هذا القدر من الزرع “ماتَه”، ويسمى هذا النوع من الإتاوة “آباخ” بهمزة ممدودة ثم باء مفخمة مشددة ثم خاء آخرها ساكنة. وربما كان لفظ “ماتَه” تحريفا لكلمة “مَذَنْ” وهي جمع مد في كلام أزناݣه.
وأعلى المكاييل في الحسانية هي: “اغْرَارَه” وتطلق على حِمل الجمل أي ما يناهز 150 كلغ.
وهنالك مصطلحات تتعلق بالحبوب لكنها أكثر ضبابية وغموضا مما سبق، فهي أقرب إلى التخمين والخرص منها إلى التحديد والتدقيق.
فيقولون لكمية الحبوب أو الدقيق التي تملأ الفم “سفَّه”، وللكمية التي تملأ اليد المقبوضة “كَمْشَه” ومرادفها “ݣبْظَه”، ويطلقون “آوْلِيلْ” على كمية غير محددة.
مصطلحات وزن الدقيق:
أول مقاييس وزن الدقيق في الحسانية هو:
“بَيْنْ أصْبَاعْ” أي ما يقبض بين إصبعين.
وتليها: “اعمِارتْ اعْظَمْ” وتساوي ثلاثا من “بَيْنْ أصْبَاعْ”، وتعني كمية التبغ التي يجعلها المدخن في غليونه. ويسمى الغليون في الحسانية “لعْظَمْ” لأنه يصنع من عظم شاة أو غزال، ثم صار يصنع من الحديد ويزين بالنحاس وغيره وله أشكال.
ويلي ذلك “اعمِارتْ نَيْرَبْ” وتقال لكمية دقق البارود التي تكفي لقتل أرنب.
ثم “اعمَارتْ كَفّْ” وتعني ما يملأ الكف من الدقيق
بخصوص التبغ يقولون “امْحارَه” من امانَيْجَه. والمحارة لفظ فصيح والمقصود ما يملأ صدفة من أصداف المحار، فما يملؤها يسمى “امْحارَه” من باب تسمية الحالِّ بما يَحُلُّ فيه.
مصطلحات أخرى
يقول “كاس من الورݣه” لما يقارب 25 غراما من الشاي، وأقل من ذلك “اݣعَرْ كاسْ”، وهو أيضا من باب تسمية الحالِّ بما يَحُلُّ فيه.
وبخصوص الملح يستعملون العديلة وهي قطعة الملح من 40 إلى 45 كغ، وطولها غالبا متر وعرضها 20 سنتمترا وسمكها 40 سنتمترا. ويقال في المثل “رأس العديلة ما إسوحلْ” أي أن قافلة الملح لا تتجه غربا لأن أغلب معادن الملح في غرب موريتانيا ولا معنى لإرسالها إلى هنالك. ويضرب لتوجيه الشيء في غير وجهته المعهودة.
ويقولون “تَادِيتْ من الملح” إذ يقول بائع الملح لصاحب الزرع مثلا أعطيك ملء تاديت ملحا وتعطيني قدر ملئها من الزرع وهذه الصيغة تسمى “ݣدْ ابݣدْ” أي قدر بقدر.
كما يطلقون “ݣنْدُوزْ” على عشرين عديلة.
وعندما يريدون مَعيَرَةَ الوبر والعهن يقولون “ارْطَلْ” وهو لَفَّة كروية يكون قطرها ذراعا وتزن عادة 600 إلى 700 غرام.
ويقال في أوزان التمر: “شنَّه” أي الوعاء الجلدي المعروف مملوءا من التمر. ويطلقون “الدَّلُو” على كمية أكبر من “الشنة”.
وبخصوص الذهب كان الصانع التقليدي يستعمل “المثقال” ومثقال الذهب ثمان حبات من “الشنبان” وهو حب فندي الأسود وهو من أصناف اللب السوداني. وقد استعاضوا عن “الشنبان” بأعواد الكبريت، فوزن العود يساوي وزن شنبانة.
وربما استعمل الصانع التقليدي ميزانا صغيرا يطلق عليه ميزان “شلݣ”، وهو -كما يقول أستاذنا محمد فال بن عبد اللطيف- مأخوذ من فعل “شلݣ” بالحسانية إذا رفع رجله إلى أعلى سمي بذلك لأنه إذا رجحت إحدى كفتيه شالت الأخرى مرتفعة بصفة فادحة. وهو عبارة عن كفتين ولسان وذراعين وليس له قاعدة يستقر عليها لذلك لا بد أن يحمله الشخص الذي يقوم بالوزن ولا يتأتى له ذلك إلا إذا كان قائما.
وقد ذكر محمد فال بن عبد اللطيف في كتابه جيدة السبك في أخبار العلك أن وزن العلك يتطلب كثيرا من اليقظة والضبط والعلم بمواضع الغش ومداخل الغبن والقيام على ذلك بالنفس وعدم إيكاله إلى من لا يعلمه. قال العلامة محمد مولود بن أحمد فال اليعقوبي في نظمه المسمى بالكشكارية في الحض على الحضور في الصلاة:
فَاحْضُرْ بِهَا حُضُورَ عَاقِلِ الْجَمَلْ * أوْ الْبَدِيلِ حِينَ كَيْلٍ وَبَدَلْ
فانظر ما أبلغ هذا التشبيه فهو يدلك على خطورة الأمر ودقته قال بعض التجار ينبغي لصاحب البديلة ألا تطلع عليه الشمس إلا وهو على الميزان مستعد للوزن وليكن حاضر القلب ليلا يغبن فإن المغبون لا محمود ولا مأجور وقال بعض الأدباء يصف أحد تجار العلك في روصو:
يَزِنُ العِلْكَ وَزْنَ مَنْ يَعْرِفُ الْوَزْ * نَ مِنَ السَّادَةِ التُّجَّارِ الْكِرَامِ
ووصف بعضهم تاجرا آخر من المطففين فقال:
يكيل ويوفي الكيلَ إن كان آخذا * وينقص دفعا كَيْلَهُ ويكالب
وينقُص أيضا باعةَ العلك عِلْكَهم * وينقصهم زرعا بما لا يناسب
ويخفِضُ من ذا السعر في كل ساعة * ويرفَع إما أحوجته المآرب
ويَخْلِط أثمانَ الطعام وربما * يَخِيس به إن منه تُعْطَى الأجانب
هذه بعض أبرز اصطلاحات الأوزان والمكاييل وستناول في الحلقة الثانية السوائل والمصطلحات المتعلقة بكيلها في الحسانية.
انتهى.