عندما تفخر بما يجب أن تخجل منه… فأنت إذاعة موريتانيا، أو “إذاعة الجمهورية الإسلامية الموريتانية” كما فرض تسميتَها الطويلة مديرُها العام في عهده الثاني من نظامه الثالث!
مراسل الإذاعة في الشـﮔات، وهو يكرر افتخارها بافتتاح محطة FM للمنقبين عن الذهب هناك، يقول: إنها أول مرة يسمع فيها صوت الاذاعة الوطنية في تلك المنطقة النائية، التي ظلت حكرا على الإذاعات الأجنبية!
ولكن المذيع المحترم، لم يقل لنا إن تلك الاذاعات الأجنبية تُلتقط هناك بسهولة دون أن تنفق الملايين على إقامة محطات بث في هذه المنطقة… وكذلك كان بث إذاعة موريتانيا قبل عقود متوفرا هناك بوضوح، حينما كانت ميزانيتها أقل من 25% من ميزانيتها الحالية!!
يتعلق الأمر كله بأكبر وأقبح عملية فساد، بل تدمير تقني تعرضت لها إذاعة موريتانيا بالتدريج… حين تُركت أجهزة بثها على الموجات القصيرة (SW) والمتوسطة (MW) تتآكل وتموت حتى الانهيار والاختفاء تماما، وتعتمد على بث الموجة الترددية (FM) وهي موجة للضواحي لا يتعدى وضوح بث جهازها الرئيسي في انواكشوط دائرة الـ50 كلم؛ بل أقل في الاجهزة العادية وفي بعض الأوقات!
قامت الاذاعة بافتتاح محطات محلية أضعف بكثير في معظم المقاطعات.
ومعروف أن محطات FM هي أجهزة خفيفة رخيصة الثمن والتكلفة؛ بل قد تكون “ميكروفونا” صغيرا يقتنيه أي شخص!
أما أجهزة البث عبر الموجات الطويلة والمتوسطة والقصيرة فتستطيع تغطية إشعاع بآلاف الكلومترات…
فلو أن الإذاعة طورت محطة الموجة المتوسطة مثلا، أو حافظت على تلك القديمة، لما احتاجت الى إنشاء محطة FM في الشگـات ولا في غيرها، ولَكان بإمكان الضاربين في جميع مناطق الوطن التقاط بثها، كما يلتقطون بث إذاعات الدول المجاورة.
وهكذا، بجهد ونفقات باهظة، تسمع إذاعة موريتانيا الآن في منطقة التنقيب في الشگـات. ولكن ما ذا عن المناطق الأخرى الشاسعة؟ ماذا عن المنقبين في “اقليب اندور” و”تازيازت”… والسائرين عبر المجابات الكبرى… حيث تتوفر “الإذاعات الأجنبية” فقط؟!
كانت إذاعة موريتانيا تملك أجهزة بث الموجات الطويلة والقصيرة، بقوة متواضعة، ولكنها تتيح التقاط بثها على جميع التراب الوطني، وفي الدول المجاورة، ودول إفريقيا الغربية وحتى الكونغو والسيراليون…
ولعله من غير المتبادر لأذهان العامة، أن بث إذاعة موريتانيا لا يغطي اليوم 5% من مساحة البلاد، لاعتمادها حصريا على موجة الضواحي (FM) فقط.
نعرف أن عهد الاستماع الى الأذاعات عبر الموجات القصيرة، قد ولى؛ بل أصبحت الإذاعة كلها مصدر معلومات مهجور تقريبا، إلا في الحالات التي لا يتاح غيرها من مصادر المعلومات، وهي حالات باتت نادرة في معظم دول العالم التي تغطيها وسائل التلفزيون والانترنت وموجات الـ “اف أم”، ولكن بلادنا ما تزال بخلاف ذلك؛ بل بعيدة منه.
ومن المؤسف حقا أن في الأمر ما يشبه “الخيانة” من الجهات المسؤولة عن هذا الوضع، لكونهم يستغلون انحسار استخدام الإذاعة بسبب انشغال الناس، في المدن وفي الخارج، بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الأخرى، وكذلك تناقص عدد سكان البوادي والفيافي التي لا تصلها تلك الوسائل! فهذا الوضع استغلته إدارات الإذاعة والجهات الوصية عليها لإهمال موجات البث الواسع وعدم صيانتها… بل إن “مركز الإرسال” الذي كان يحتضن أجهزة البث شمال العاصمة، قد انهار سياجه ومنشآته تماما، وأصبح مجرد حي من أحياء المدينة السكنية!
وفي الحقيقة ليست الإذاعة الوطنية وحدها التي طالها الفساد والاهمال وقضى على قدرات إرسالها التقنية كليا، والتغطية على ذلك بموجات FM.
فنفس الشيء حدث للتلفزة الموريتانية، التي اختفى بثها الأرضي كلية، وانهارت تجهيزاته، اتكالا على البث الفضائي عبر الأقمار الصناعية، مع ما في ذلك من قصر النظر والإهمال وعدم المسؤولية…
فانقطاع البث الأرضي والاعتماد على البث الفضائي، فيه من جهة: الارتهان لجهات أجنبية تملك أو تتحكم في وسيلة ذلك البث، ويمكن ـ لأي سبب ـ أن تقطعه. ومن جهة أخرى حرم مئات المواطنين من الالتقاط المباشر للبث التلفزيوني، وفرض عليهم شراء آلات وتجهيزات التقاط البث الفضائي؛ وحينها قل من سيثَبِّت “الحاكوم” (Remote Control) على المحطات الموريتانية!
وهكذا فهي أيضا عملية انتحار!
ولأن المصائب قد تترى، فليست الاذاعة والتلفزة وحدهما ضحايا أنظمة الفساد والتخلف واللا مسؤولية التي نكبت بها هذه الدولة، وافلست مؤسساتها…
فهناك أيضا إعدام محطة الاتصالات السلكية واللاسلكية، التي كانت تضمن تشغيل الهاتف الوطني والدولي بالتقنية التناظرية التقليدية، بسيطرة وطنية كاملة. وكانت محطتها الرئيسية شرق العاصمة (تل الزعتر حاليا) وقد هجرت وخربت أعمدتها وتجهيزاتها تماما، ثم قضي على المؤسسة الوطنية التي كانت تدير الاتصالات الوطنية (OPT) بشكل آمن ورخيص، وكانت توفر أرقام استعلامات عامة مجانية، وتصدر دليلا سنويا شاملا بأسماء وأرقام المشتركين في الهاتف، كما هو الحال في جميع دول العالم.
حتى إن كابل الهاتف المدفون الذي كان يصل انواكشوط بكل من لـﮔوارب وأكجوجت قد تمزق واختفت رفاته!
واليوم بعد ستين سنة لا تملك الدولة الموريتانية اتصالات هاتفية؛ لا تناظرية ولا رقمية، ولا بثا أرضيا للتلفزيون ولا بثا موجيا للإذاعة… وإنما تعتمد على وسائل إما قاصرة وإما لا تتحكم فيها!!
وهكذا إذا خرجتَ اليوم من أي مجال حضري في أي بقعة من الوطن، فستخرج من دنيا الحضارة الحالية: لا اتصالات لهاتفك، ولا بثا لتلفازك ولا حتى لإذاعتك… وهو وضع أسوأ مما كان عليه الحال في أي وقت!!
فإلى أين نسير إذن…؟!