كنت في مقال سابق قد تحدثت عن ركب شنقيطي خرج ولم يعد، وساعتها تلقت المقال إياد كريمة تطفح بالعلم والمعرفة وحب التدقيق فيه، فمنها من كتب علما وردا وافيا أكمل به جوانب الموضوع حسب مصادره، ونقصد بذلك الأستاذ الجليل محمد الأمين بن بلعمش، ووسم موضوعه ب ” بل هما ركبان “، ومنهم من أشار إلى وثيقة ذات صلة، ونقصد بذلك أستاذنا الكبير، أستاذ التاريخ، وصاحب الاختصاص في هذا النوع من المعرفة ونعني بذلك الأستاذ سيدي محمد بن الغلام، وقد تفضل مشكورا بابتعاث الوثيقة جزاه الله خيرا.
وحينما وصلتني الوثيقة وراجعتها عرفت أهميتها وطرافتها لما تتضمن من معلومات عن رحلة الحج التي قام بها عالم شنقيقط أحمد بن سيدي محمد بن حبت للديار المقدسة، والظاهر أن هذه الرسالة هي التي أشار إليها أستاذنا محمد الأمين ولد بلعمش، وأخذ منها المعلومات المتعلقة بحاجين ذكرتهما في المقال وهما المنير ومحمدُّ ولد محمدي، فالشكر موصول لهما على تمام العناية.
واهتماما بهذه الرسالة التي تصب في مهيع كنت سلكته في إظهار وثائق ثقافة مدينة شنقيط، وإتماما للمحاور التي لم تطرق بعد، كان علي أن أنظر وأتدبر ما أفادت به الرسالة، فوجدتها غنية بجوانب مهمة وخاصة في تبيان الطريق السالك إلى البلاد المقدسة، عبر المغرب، وذكر بعض مدنه، وكذا اهتمام ملوك المغرب بعلماء مدينة شنقيط، أضف إلى ذلك اهتمام عالم شنقيط بجمع مصادر الثقافة الشنقيطية المتمثلة في شراء المخطوطات النادرة وإحضارها إلى المدينة.
لقد عرف أحمد بن سيدي محمد بن حبت بحبه للعلم ونشره ضمن مؤلفات عديدة ونذكر منها شرحه لنظم عبد الرحمن بن الإمام في علم المقرأ مصححين بذلك سهوا قد وقع في إحدى المقالات حيث نسبنا الشرح للوالد سيدي محمد بن حبت رحمه الله، وقد نبهنا الأستاذ الكبير سيدي محمد بن الغلام إلى ذلك، فوجب التنويه. ومن نوادر كتبه رسالة في أمر الشرفا، موسومة: بحلية أهل العهد والوفا في الذب عن ساداتنا الشرفا، وقفت عليها في مكتبة المرحوم ملاي امحمد بن أحمد شريف العامرة، وكذلك شرحه لنظم التجاني بن باب بن أحمد بيب العلوي المتوفى بعد سنة 1260ه، وأفضل الموجود من شرح المقصور والممدود وحسبنا هذه الأمثلة إذ يقصر المقام عن الحصر.
ونعود إلى الرسالة التي كتبها عالمنا أحمد وهو في مدينة اصويرة، فقد احتفى بهم المولى عبد الرحمن، حيث استقبلهم بعدما أعلمه القائد سيدي أحمد بوستة وأكرمهم وسأل كل واحد منهم عن اسمه واسم أبيه، وجاء ذلك فيما قاله بعبارته الجميلة: ” بأنا لما أتينا لمحروسة مراكش نزلنا عند المحب القائد لا زال عونا لكل وافد سيدأحمد بوستة، وأكرمنا غاية الإكرام، وأخبر بنا أمير المؤمنين مولانا عبد الرحمن، وأرسل إلينا وجئنا لغياث المرحلين، ومأوى المساكين، وفرح بنا غاية الفرح حتى سأل كل منا عن اسمه واسم أبيه، ودعا لنا بالخير، والحمد لله رب العالمين”.
ومما ذكره في شأن تزويدهم بما يحتاجون من مال، قال: ” وأرسل للقائد سيدأحمد بوستة، أن يعطى لكل واحد منا عشرة مثاقيل، وأن يكرى لنا ما نحتاجه من جمال للركوب”. وفي مكان آخر يقول: ” فلما أتينا اصويرة ومعنا خادم السلطان دفع الكتاب الذي ضمنه ما ذكر للعامل، وفرح بنا غاية، وأرسل لكل واحد منا ما يمون اثنين من الدراهم كل يوم”. وفي معلومة أخرى يقول:” جاءنا المنير بن الحبيب، ومحمدُّ بن محمدي أمام الركب الذي هما فيه، وتركاه عند أبناء باسباع..والحمد لله على جميعه، فاجتمعنا على ذهابنا لاصويرة حتى ياتونا عن قريب”.
ومن القضايا المهمة التي تعرض لها قضية شراء المخطوطات فقد بحث عنها في مدينة مراكش حيث قال: ” ولم أر من الكتب إلا الجزء التاسع من البيان والتحصيل، وابتداءه من كتاب الوصايا، وكتاب أم الولد فيه خمسة كتب في الوصايا، وكتاب العتق، وكتاب التدبير، والجزء السابع، ابتداء من كتاب الجوائح، والمساقاة، وانتهاءه كتاب الشهادات، الثالث إلا أنه قديم وبعضه ليس تابعا لبعض على عادة أهل الغرب في ائتلافهم ما ليس بمؤتلف، وها أنا نقلته معي، لأجد آخر أرافقه معه. واشتريت من صحاح الجوهري، جزء ابتداءه من أوله إلى وسط الزاء، صحيح الخط، واشتريت نصف حاشية القاموس ولم أمعن فيها النظر لشغلي، إلا أن أشعارها قليلة، ومدار أمرها على الانتصار للجوهري فيما غلطه فيه صاحب القاموس، والتوهين لكلام صاحب القاموس، واشتريت جزئين من إرشاد الساري للقسطُلاني، والدر النثير في أجوبة أبي الحسن الصغير، والذهب الإبريز في مناقب عبد العزيز، وتركت الجميع عند نادرة الزمان، الكريم ذي الهمة، عظيم الشأن شيخنا، الفقيه، النبيل النبيه، أحمد بن محمد آكنسوس، التجاني، نفعنا الله به وبأمثاله”. تلك فقرة ذات قيمة كبيرة في ما يتعلق بجمع الكتب وشرائها، واختيار ما هو صالح منها، وضمن حقول معرفية لغوية وفقهية، كما تفيد هذه الفقرة في تصنيف مصادر مكتبة مخطوطات أهل حبت العامرة، ومن أين أتت؟ والفترة الزمنية التي كانت فيه مصدر إشعاع فكري لمدينة شنقيط. كما تفيد حث الوالد الكبير رحمه الله سيدي محمد بن حبت، أبناءها على الاشتغال بالعلم وجمع المخطوطات وشرائها من الأماكن البعيدة وإحضارها إلى المدينة.
وأخيرا نريد أن ننوه بما كتبه هذا العالم الكبير في آخر رسالته، حيث استذكر عالمين من علماء مدينة شنقيط وهما العالم الكبير والرجل الصالح أحمد بن البشير، والقاضي المتميز الشيخ بن حامن، حيث طلب منهما صالح الدعاء له ولأفراد الركب معه، عسى الله أن يختم لهم بالحسنى والعافية.
إن هذه الرسالة طريفة في موضوعها وشهادة على أزهى فترات التميز الثقافي في مدينة شنقيط العامرة بحول الله تعالى، فقد كتبت في 11 من سنة 1272ه، وهي فترة كانت المدينة تعج بالعلماء المتبصرين، في مناحى العلم، كما كانت مكتباتها ممتلئة بالمخطوطات النفيسة التي أحضرت من أصقاع المعمورة، وليست هذه الرسالة إلا إحدى الشواهد على ذلك.