الاستشراق البريطاني وموريتانيا.. مراسلات نوريس مع المختار بن حامدٌ
رسالة من المستشرق نوريس لابن حامد تنشر لأول مرة
ترددت على مسامعي مرارا من عجائز الحي البدوي الذي ولدت ونشأت فيه، أنه في سنة 1967 مر المختار بن حامدٌ رحمه الله بمضارب الحي ومعه “نصراني” يسأل عن العادات والألعاب ويستقصي عن تقاليد الناس في اللباس والمأكل والمشرب، ويحب أن يشاهد بعض الألعاب وأن يحضر قرع الطبل والأغاني التي تؤدى مع قرعه، وغير ذلك. وسمعت منهن أن المختار بن حامدٌ جمع له بعض أطفال الحي فأدوا أمامه لعبة هيب، وكان مهتما إلى حد بعيد بحركاتهم وأصواتهم وهم يلعبون.
و”هيب”، كما هو معلوم، لعبة من الألعاب الرياضية التقليدية عند الموريتانيين، وطريقة لعبها أن يخط اللاعبون دائرة، يكون أحدهم في مركزها منحنيا على الأرض كوضع الساجد، ويكون لاعب ثان واقفا فوقه يمنع عنه بقية اللاعبين فلا يلمسونه. واللاعب الواقف يظل يدور باللاعب المنحني واضعا يده على ظهره ويرد عنه حيث يركل اللاعبين بحرفية ورشاقة وسرعة فائقة. وإذا تمكن أحدهم من الوصول إليه ضربا باليد فإن الواقف يأخذ مكان المنحني ويأخذ الضارب مكان الواقف وهكذا دواليك. ويكرر اللاعبون عبارة “هيبْ هيبْ” ومن هنا أخذت اللعبة اسمها. وأقل عدد لاعبي هِيبْ ثلاثة، وكلما زاد عددهم زاد الحماس. ويقولون في المثل الشعبي “أحمَ من هِيبْ سَبْع” أي أشد حماسا من سبعة لاعبين يلعبون هيبْ.
هارس نوريس.. أول مستشرق بريطاني ينشر عن بلادنا
لم يكن ذلك النصراني، الذي سمعت عنه وعن زيارته لحينا البدوي من تلك الأمهات المستغربات من اهتمامه وغير المستوعبات لسفره الطويل حتى يشاهد أطفالا يعلبون لعبة “هيب”، فهذا بالنسبة لهن سخيف جدا فلم يكن في نظرهن عَرَضًا قَرِيبًا وَلا سَفَرًا قَاصِدًا، لم يكن ذلك النصراني سوى العالم والمستشرق البريطاني هاري ثيرلوول نوريس (Harry Thirlwall Norris) المولود في 24 يونيو 1926، والذي درس علم الآثار والأنثروبولوجيا في بيترهاوس في جامعة كامبريدج، ثم أصبح أستاذا محاضرا بجامعة لندن وعلى وجه الخصوص كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بهذه الجامعة. وكان قد تعلم اللغة العربية سنة 1958 في عدن باليمن يومَ كانت مستعمرة بريطانية.
كتب نورس 13 كتابًا والعديد من المقالات، وكان أول دراساته حول بلادنا وهو تأليف من أشهر بحوثه وعنوانه: “شنقيط الفولكلور والأغنية” (Shinqiti Folklore and Song)، وقد ساعده في جمع مادته المؤرخ الجليل المختار بن حامدٌ، وقد نال بذلك البحث شهادة الدكتوراه وقد نشره سنة 1968. وفي هذا الكتاب نظرة بحثية فاحصة للمساحة الشعرية لدى المجتمع الشنقيطي وملامح فولكلوره. وقد اعتنى نوريس بالمجتمع الطارقي فنشر عنهم كتابه الصادر عام 1975 بعنوان “الطوارق: تراثهم الإسلامي وانتشاره في منطقة الساحل” (The Tuareg: Their Islamic Legacy and Its Diffusion in the Sahel)، قدم الباحث في هذا الكتاب الثمين نظرة عميقة عن هؤلاء البدو الرحل غير المعروفين من قبل الكثير من الباحثين والذين يعيشون في وسط الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل. وله دراسات عن ليبيا وعن الإسلام في البلقان وغير ذلك. وقد عاش نوريس 93 سنة مليئة بالبحث والنشاط العلمي وتوفي في 10 يناير 2019.
رسالة من نوريس إلى المختار بن حامد تنشر لأول مرة
هذه الرسالة يعود تاريخ كتابته ليوم 6 إبريل 1967م، وقد بعث بها نوريس وكان قد أنهى نقاش أطروحة الدكتوراه عن ثقافة بلادنا، ويبدو أنه كان يستعد لزيارة موريتانيا، زيارة علمية أخرى، وقد زودني بصورة منها مشكورا أخي العزيز الدبلوماسي إسماعيل ولد مولود ولد داداه، وأصلها محفوظ في مكتبة أستاذنا الجليل الراحل محمد ولد مولود ولد داداه رحمة الله عليه.
نص الرسالة:
إلى صديقي العلامة المختار بن حامد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتحياتي الطيبة واحتراماتي الفائقة. أما بعد فإني لم أكاتبكم منذ زمن طويل لأني كنت مريضا وتعبانا من كثرة العمل في الجامعة، ومن مشاكل متنوعة أخرى وكدت (لعلها: وكنت) مصابا بصدام وجداني، والحمد لله تحسنت صحتي الآن، ومع ذلك لم ألبث أن أرسل إليكم بخطاب أخبركم فيه أني حصلت على مال كاف للقيام بسفر آخر إلى موريتانيا. ولو أنه من المرجح أني لن أسافر إلى هناك قبل السنة القادمة؛ من حيث لم أجمع حتى الآن جملة المال المطلوب من سلطات الجامعة. على أني سأخبركم أحيانا كيفية التقدم في جمع المبلغ الكامل للزيارة، وفي فكري أخبار أخرى:
1 – من المؤمل أن يطبع كتابي الإنجليزي هذه السنة وعنوانه “الغناء والقصص الشعبية في تراث شنقيط” (أي الجمهورية الإسلامية الموريتانية والساقية الحمراء). وفي هذا الكتاب أهديت امتناني وشكري لكم بسبب المساعدة النفيسة التي أعطيتموني إياها في الكتابة وفي تقديم النص إلى المطبعة وإنه من المؤسف أني أتعبتكم مرارا في الشرح وفي تفاصيله.
2 – لم يزل صديقي Bynon يدرس المنظومتين الزناگيتين النفيستين للعلامة الشيخ والد بن خالنا، ولكنه من اليقين توجد الوثائق في أحسن حال بين يديه. وإذا كنتم محتاجا إليهما فسأرسل بهما إليكم.
سؤال
أولا: ذكر ابن تومرت في رسالته الأمور التالية بين الملثمين (أي صنهاجة اللثام):
1 – خرجوا من كاكدم (كوكدم/ / ڨوڨدم).
2 – لشعر نسائهم شكل يشبه سنام البختي (أي الجمل)
3 – ضربوا بسياط الجلد
4 – هم ملثمون واستعمال اللثام بين الرجال يطعن في الشرع.
5 – لهم ملوك ولكن نساؤهم يملكن المجتمع القبلي.
6 – هم مجسمون
وكل هذا وجهة نظر ابن تومرت وعقيدته.
كاكدم / گاگدم / گوگدم / ڨوڨدم.
1 – قال الإدريسي: “إن مدينة آركي (آزوڨي) بالبربرية ڨوڨدم بالغنوية (أي الآزيرية).
2 – قال ياقوت: “إن كوكدم مدينة عظيمة لقبائل صنهاجة في الصحراء القصوى وعاصمة لمتونة كما نول لمطة عاصمة لمطة”.
3 – قال ابن خلدون: “كاكدم موطن الملثمين ولذلك كاكدم مدينة وبلاد معا”.
4 – قال الحسن بن محمد الوزاني (Léon l’Africain) إن گوگدم (Gogdam) صحراء واسعة قاحلة من ناحية آرڨشاش وإيگدي وتغازي”. ولم يذكر أية مدينة اسمها كاكدم أوكوكدم.
6 – قال ابن سعيد “إن مدينة آزوقي ليست كاكدم (كوكدم) والثانية على مسافة 8 أيام من الأولى”.
6 – قال الدمشقي: “إن كاكدم اسم قبيلة صنهاجية وكذلك تازكاغت (أي آزوقي).
7 – قال بعض الجغرافيين: “إن كاكدم مدينة لمسوفة قريبة من مدينة الصفر (النحاس) حيثما كانت.
8 – قال نجم الدين أحمد بن حمدان الحراني في كتاب جامع الفنون وسلوة المحزون: “والمشهور على ألسنة أهل عصرنا –هو سنة إحدى وسبعمائة- أن اسمها آزاقة، وبين آزاقة والقدم (القدم أو كاقدم – النص فاسد) للفارسين ستة أيام وللمسافرين (أي مسافرين؟) على العربات (شيء غريب في آدرار) عشرة أيام”.
في هذا التشويش الجغرافي وفي هذه المشاكل: ماذا يكون الجواب الصحيح الممكن ما ظنكم؟
في ظني قد يكون التفسير أحد الاقتراحات التالية:
1 – گاگدم: اسم ناحية وقرية معا، هو علامة معناها غناوية أو أزيرية. قد يكون الاسم مشتق من (m)ged(g) أي صخرة أو بئر. إذا كان هذا ممكنا فالمدينة كانت في آدرار قريبة جدا من آزوڨي إلى حد التشويش بينهما. هل كانت كاكدم (كوكدم) اسم مدينة “آبوير” القديمة أو قصر شنقيط نفسه أو قصر ودان؟ يوجد جميع هذه القرى في ناحية واحدة أي ظهر آدرار المعروفة بجبل بافور ثم جبل لمتونة.
2 – كاكدم اسم بربري وربما غلط الإدريسي في قوله هل يتعلق إگئذه (أگجون) Igidi يعني كان الموطن الأصلي للملثمين من ناحية الزمور وتيندوف وآرڨشاش ومن بعد صار اسم تلك الصحراء مدينة بعيدة عنها، وآزوڨي مثلا أو ودان أو قرية خربة أخرى.
3 – گاگدم اسم قبيلة (إدوكچ؟) أصلها في الصحراء الشمالية فصار اسم القبيلة اسم الصحراء أو القرية من مراعي هذه القبيلة البربرية أو البافورية؟
4 – ذكر الرحالة Barth الألماني موقعا نحو الشرق من قصر وادان يسمى el-Gdām (أي القدم أو الگدام). لم يعرف هذا الألماني السبب لهذه التسمية ولماذا يسمى بها، ولكنه يذكر أنه ملتقى صحراوين (وران ومقطير). هل هذا الموضع گاگدم وأقرب القرى منه قصر ودان ومدينة ومقطري ڨوڨدم للجغرافيين؟
تنبيه: رسالة ابن تومرت أقدم من تأسيس قصر ودان ولكن قرى كولان وتفتل أقدم من تأسيس القصر، وكان كاكدم مركز لمسوفة، وهذا يشير إلى ودان.
5 – كانت مدينة كاكدم “مدينة” خيام متنقلة بين الشمال (آرق إگئذه) وآدرار، ولم يبق من أثرها إلا قبور الملثمين القدماء (في المديني مثلا)؛ ما ذا من هذا صحيح؟
ثانيا: يبدو من رسالة ابن تومرت أن شعر نساء الملثمين يشبه حلي الموريتانيات اليوم، هل هذا هو الصحيح؟
تفضلوا بإرسال التفاصيل إليَّ حول أنواع الحلي بين النساء؟
2 – هل سياط جَلْد المرابطين معروفة بين الرحالة في الصحراء اليوم؟ أمر العلامة عبد الله بن ياسين بضرب السياط كعقوبة للمعاصي بين أتباعه.
3 – هل يعرف تاريخ ترك التلثم بين قبائل موريتانيا؟ ذكر بعض المسافرين البرتغاليين هذه العادة بين الأزناك في 15م، والولي ناصر الدين أشار إلى “عرب النقاب” أو حدث ذلك بعض العلماء من تجكانت في كتاب الشيخ محمد اليدالي.
4 – هل لقب الملك (Amenokol بين الطوارق) معروف بين الناطقين بالزناكية في موريتانيا؟ هل هذا الاسم يشاكل لقب شيخ القبيلة أو أمير القبيلة؟ وهل توجد قصص عن ملكات بين صنهاجة اللثام؟
5 – هل كان التجسيم مسألة للكلام الديني أو للفقه بين علماء موريتانيا بعد انتشار التصوف والطرق الصوفية في البلاد أو من قل؟ هل كانت هذه التهمة تهمة كاذبة ناطقها ابن تومرت ضد المرابطين ونيته كانت سياسية فقط؟
ثالثا: ذكر ابن خلدون ومؤرخون آخرون عدد قبائل صحراوية في كتبهم هل توجد أسماء هذه القبائل في موريتانيا الآن:
1 – لمتونة اسم معروف في ناحية كيهيدي، هل معكم أنساب قبائل لمتونة؟ وماذا القبائل الأخرى أصلها من لمتونة؟
2 – مسوفة: مشظوف، وهذا معقول. هل توجد قبائل أخرى، وإدوالحاج مثلا تنسب إلى مسوفة؟
3 – أنكيفو وبني ماركسن وبني كاردميت وبني سيغيت وبني صالح وبني مسوفا وبني وارث وبني توتك وسرطة وسططة وترجة ومداسة وبني لموتونا ومغرسة (آمقاريج) ومومنة وفرية ولمطة وملوانة وأنيكارت بندينال بنو مولانو بنو ناسجة.
4 – هل تظنون أن سمسطة = سماسيد؟
5 – بنو ورتنطق: ور = غير / تنطق = تندغ، هل هذا ممكن؟
6 – الملك تيلوتان بن يكلان / تكلان هل يكلان = إدوكلن ، إديكلي/ إيديشلي – ك > ش؟
7 – آزقي/آزوقي – تارغت/ تازغت؟
8 – (امرأة زناتية) (تازكاني) تاركاي = لمط بن زعزاع
لمط صنهاج
لمتونة مسوفة جدالة
هل تازكاي أم آزقي أو ملكتها؟ وهل توجد صلة بينهما؟ وماذا أصل قبيلة Tézegué.
رابعا: تفضلوا بتفسير الكلمات التالية:
1 – دمراو
2- تبلاح
3 – ونكالة
4 – الفسخة
5 – وجه العلك
6 – لكزانه
هل تعرفون عنوان العلامة محمد بن داداه؟
وفي الخاتمة تفضلوا بالإجابة على أسئلتي وتفضلوا بقبول فائق احترامي. سأرسل بكتب إليكم عن قريب إن شاء الله. ودمتم بخير.
صديقكم المخلص: Harry Norris
انتهي رسالة نوريس
في الختام…
من الواضح أن رسالة نوريس للمختار بن حامد مرتبطة ببحوثه المعمقة عن بلادنا، وقد أثار فيها العديد من الأسئلة وقدم فيها محاججات جميلة حول بعض التسميات التاريخية.
أسئلة الباحث نوريس متنوعة فمنها ما يتعلق بالأماكن وطريقة نطقها الصحيح، ومنها ما يتعلق بالمرابطين والحياة الفكرية في زمنهم وتدافعهم مع الموحدين، ومنها ما يتعلق بأسماء مجموعات بشرية كانت في هذا الفضاء وتحدث عنها المؤرخون العرب في القرون الوسطى، وقد تلاشت أو تحولت تسمياتها. وفي هذه الأسئلة ما يتعلق بأنساب القبائل الموريتانية، وفيها أيضا ما يتعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية.
وجميع تلك الأسئلة توحي باهتمام عميق ببلادنا، واطلاع واسع على تفاصيل تاريخ هذه البلاد، وهو أمر تعكسه بحوث نوريس ومقالاته. لم أقف على جواب المختار بن حامدٌ لنوريس ولو وقفنا عليه لوضعنا اليد على تراث ثمين، ونرجو أن يتاح لنا ذلك في قابل الأيام.
من موقع موريتانيا الآن