لعلّ مشَاهِد الحياة اليوم من أعقَد المشاهد الإنسانيّة التي شَهِدتُها، تلك التّفاعلات بين العلاقات والقِيم، المساحات والمسافات، المكان والزّمن، وحتّى البقاء الذي لطالما نُسب للأقوى في حينِ أنّ مجريات اليوم تقول عكس ذلك؛ ففي الوقتِ الذي اعتقد الإنسان أنّه بلغ مقام الألوهيّة في قدرته على التحكُّم في العالم من حوله إن لم يكُن الكون كلّه، في تسييره وتمهيده بما يخدم خُططه ورغباته واستبداده على المدى القصير أو البعيد، كان رُعب كيانٍ مجهريّ واحدٍ كفيلاً بأن يُذكّره بأنّه أبعدُ وأضعفُ من أن يفعل ذلك.
لربّما لأنّ المستور فيما سبق كان أكبرَ من البيّن، وهو ما خلق هذه الفجوة التي تجعلُ المتأمّل اليوم حيرانًا، يُقارن بين صِيَغ التّفاعل والتساقُط والتّدافع والتّنازع والتّقاتل، يرصد تساقطُ الأرواح كورقِ الخريف على الأرصفة، تَوحُّش المجتمعات المتمدّنة أو التي كانت تبدو كذلك، وكيف ستعود لتمدّنها مرّة أخرى بعد انقضاء الأزمة، عبر أيّ مسالك ستفعل وبأيّ ثمنٍ؟
لعلّ أكثر ما يُثير الهلع في ظلّ هذه أزمة -أكثر من الوباء نفسه- هذا التوحُّش الإنساني الذي سرى في النّاس سريان النّار في الهشيم، تمارسه نصف البشريّة في حين تتستّر خلف دَيْدنِ الحبّ والتّكافل، التمدُّن والتحضُّر |
ليس هناك من شكّ في أنّ تَبِعات فيروس كورونا المستجد قد شكّلت انعطافة ثوريّة غير مسبوقة على كلّ الجبهات الإنسانية، وربّما تكون المفاعيل السيكولوجيّة لهذه الانعطافة للفرد نافذةً، مكّنته من الإطلالة على ذاته أوّلاً في إطار العُزلة المفروضةِ عليه وعلى علاقاته الأسريّة ثانيًا بعد سِمَة التّباعُد التي خلّفتها الحداثة والرّكض خلف التملُّك، ثمّ على العالم الذي صار مكشوفًا أمامنَا بطريقة مُربكة. فالمسافة بين المشهد الإنسانيّ اليوم وأمس مساحةٌ تحتاجُ الكثير من النّظر والتأمّل، فالتّزاحُم والتّنازع فيها كثير، وموازين الاقتراب والبقاء، حُدود المهام والآداب والمسؤوليّات، خُطوط التّمايز ومناطق التّشارك… تحتاج إعادة ضبطٍ وترتيبٍ من أصغر وحدة وهي الأسرة، إلى المجتمع، فالدّولة.
الذّاتُ والعزلة
الإنسان الذي كان يفرُّ من العُزلة كحقّ لنفسه عليه؛ حتّى تلتقطَ أنفاسَها بعيدًا عن توتّر الركض المستمرّ نحو استقرارٍ غير مبلوغٍ في ظلّ دورانٍ مريبٍ لعجلة التقدّم، وتعبٍ يدلُّ عليه أرقُ ليلٍ وناقوسُ نسيانٍ متكرّر للأحداث والتفاصيل والمواعيد دقّه عقلٌ مثقلٌ بالحوادثِ المتعاقبة، تلهيه عنها أحيانًا لقاءات مع النّاس على اختلاف طبيعتها، وأحيانًا أخرى يتعلّل بالواجبات الاجتماعية والانشغالات المهنيّة التي لا تنتهي. قد دفعته إليها اليوم أزمة الوباء المنتشرة راغمًا، ولو أنّه تأمّل قبل أن يتذمّر؛ لاستشعر المنحة في ذلك لأنّها مهما امتدّت ستبدو نقطة صغيرة في مسيرة طويلة، استراحة مراجعةٍ وتأديبٍ، تَعَلُّم وتخفُّفٍ، وخروجٍ من أسْر القيود، أو هدنةٍ بين المعارك التي لا تنتهي مع الحياة، عزلة قربٍ روحيّة بعد سنين جفاف، لينقّي نفسه من الشوائب والذّنوب.
ستساعدهُ على مشاهدةِ الماضي، على تذكّر الأشياء بحنينٍ أو ألمٍ أو بهجة، في شقاوة طفله، أو صور قديمة باهتة اللّون في دولابٍ منسيّ، في حكايا جدّةٍ بصوتٍ خفيضٍ في أذن حفيدتها، في لعبة أو حتّى أحجية، وحينها سيُدرك كم ضيّع من العُمر لاهثًا وراء حُلم الاقتناء والتملّك والتسيُّد، فتبدو الأشياء الثّمينة زهيدة والقديمة أحب، ثمّ يتبدّى أمامه الحاضر وكيف باغتته شيخوخة قلبه. ويكتشف كم صار يتعايش مع “لاإنسانيته” بدرجة متزايدة من الخِفّة والاستخفاف بعيدًا عن الحضور الإنسانيّ الحقيقيّ.
الذّات والعلاقات
على نطاقٍ أوسع وبشكلٍ أقلّ تعقيدًا ربّما، ستكون فرصةً لينظر فيها المرء إلى علاقاته الإنسانيّة والأسريّة والمهنيّة، ليُرتّب مشاعره وأولويّاته، وليُصلح روابطه مع أهل بيته بعد أن اتّسعت المسافات بينه وبينهم حتّى صارت كثقبٍ أسودٍ ابتلعَ كلّ لغات الحوار فساد الصّمت وغدت العبارات ككرةِ مطاطٍ لا طعم لها ولا لون، وكي يحفظ الودّ ويخفض حجم التوتّر الذي قد يُسبّبه السّأم وطول أمدِ الحجر، عليه أن يكون مرنًا في تعامله، وأن يُدرك تركيبة النّفوس وتمايزها، من حيث طبيعة الخبرة ربّما، وتباين الأجيال، سقف الفهم وجذور الطّباع وكذا حَدّ الرؤية… وكلّما تصالح الشّخص مع هذه الاختلافات قلّل مساحات الخلاف، والأصل في التّعامل مع أهل البيت هو الرحمة والمودّة والتغافر، وترك حظّ النّفس والإحسان وائتناس النفوس ببعضها الذي يتجاوز اشتراك حيّز المكان فحسب.
لعلّ أكثر ما يُثير الهلع في ظلّ هذه أزمة -أكثر من الوباء نفسه- هذا التوحُّش الإنساني الذي سرى في النّاس سريان النّار في الهشيم، تمارسه نصف البشريّة في حين تتستّر خلف دَيْدنِ الحبّ والتّكافل، التمدُّن والتحضُّر، ولربّما في أزماتٍ كهذه سيكون البدويّ في الصّحراء أكثر رقيًّا وإنسانيّة من أصحاب القصور والألقاب المستعارة الزّائلة، فالحضارة لا تُقاس بالألقاب والحجارة وإنّما بالقِيَم ومدى مقدرة الإنسان على التّناغم مع الكون من حوله والصّمود والثّبات وقت الأزمات. ففي الوقتِ الذي كان على الإنسان أن يدرك حجم مسؤوليّته أمام نفسه، أهله ومجتمعه، وأن يكون واعيًا بما فيه الكفاية ليلتزم بتعليمات الأنظمة فيما يخصُّ النظافة والحجر المنزلي وغيرها كأدنى حدّ من المساهمة في المشاركة في الحدّ من استنزاف الأرواح وانفلاتها من بين أيدينا، تجدهُ يستهتر ويستخفُّ بخطورة الوضع من حوله، وكأن الحَزم لهوٌ وحرب البقاء لعبة رعب مستمرة وممتعة في ظلّ هذه الظروف، استعذبناها وقبلنا بها!
هذا من جهة، من جهة أخرى توحُّشه للاستهلاك أو بالأحرى للتّخزين بحيث لا يكتفي باقتناء مستلزماته وما يسدّ حاجته مع مراعاة حاجة الغير كذلك، أي مراعاة الحقوق والمصالح العامة بالنّظر للمجتمع كوحدة عضوية إنسانية، بل تبرز أنانيته أكثر، فتراه يحملُ السّوق إلى بيته، وفي المُقابل نرى أيضًا توحُّشه في المعاملات التجاريّة؛ بتكديس السّلع ورفع أسعارها، وتزوير العملات والغشّ والتطفيف، وهذا منظرٌ عامٌّ عند العرب والغرب معًا دون استثناء، والحقيقة أنّ ابن خلدون قد أشار في مقدّمته إلى أنّ الأمم تدور صعودًا وهبوطًا بين التأنّس والتوحُّش، لا تغنيها حضارة قديمة ساد فيها التأنّس والتحضّر أن تنهدم القيم ويتفكك النسيج الاجتماعي وتدخل في دورة من التوحّش تصبح فيها الغلبة للأقوى وليس للأصلح… وإنّه لواقعٌ مُرعب.
في الجانب الآخر للعالم، ترى مغريات الحركة الرأسماليّة السّريعة باتت عابرة للحدود، ساكنة في أصغر تفاصيلنا تُغوينا بلافتاتٍ وهميّة (دروس إلكترونيّة لا محدودة، عروض واشتراكات مجانيّة، دورات، منتوجات…) ليزداد الاستهلاك وتزداد سيولة الثّقافات، العلاقات والحياة ذاتها، في حين تُحْكِم هي القَبض على مساراتنا اليوميّة، فنحنُ لا نملك الأشياء فحسب بل تملكنا هي أيضًا، أي أنّها علاقة تحكُّمٍ مُتبادلة، التحرّر منها يوجب علينا تحديد خياراتنا دائمًا في إطار الصّلب منها لا السائل.
لا شكّ أنّ ملامح العالم ستتغيّر عقِب هذه الأزمة، وستعزّز فردانيّة الكائنات البشريّة، بحيث سينطوي الفرد على نفسه أكثر رغم أنّ منصّات التواصل لاتزال وسيلة أولى لمحاولة كسر قيود العزلة القسريّة، وستتحطّم المرجعيّات القديمة وتتشكّل أخرى جديدة، أمّا عن هذا الانكشاف للدّول المتقدّمة وانفلات قدرتِها على التحكُّم في زمام الأمور مقارنة بغيرها أمام العالم فسيبقى موضع مُساءلة لعدم استيعاب الكيفيّة والأسباب التي تتغاير بها مؤشّرات القوى والضّعف إزاء أرقام الأرواح المتطايرة المعروضة على الملأ، وسيبقى التساؤل مطروحًا حتّى تمرّ الأزمة: كيف ستنقلبُ موازين القوى ووفق أيّ نموذجٍ سيُعاد تشكيلها في لعبة التنافس الصراعيّ العالمي، الذي يسعى ككلّ مرّة لمركزة النفوذ السياسي والاقتصادي على مستوى العالم؟ ومن سيكتب هذا التاريخ الذي نعيشه على دفتر انتصاراته في الختام؟
خولة مقراني