وكالة صحفي مَيل مَيل

الزراعة..توضيح وتعقيب / محمدو ولد البخاري عابدين    

بعد حديثي المرة الماضية عن زراعة الخضروات وعوائقها ومتطلباتها، اتصل علي بعض الزملاء وغيرهم يقولون لي “إن ما تطرقت له خلال هذا المقال من فشل السياسات، والتخادع بين الوزارة والمزارعين، والنقص في إنتاج الخضروات ينسف ما كنت تسوقه طيلة السنوات الماضية من ازدهار الزراعة وتطورها في الضفة خلال السنوات الأخيرة”، وهنا أنبه هؤلاء وكل من استنتج من مقالي مثل استنتاجهم على أنني لم أسوق شيئا ولم أروجه، وليس من طبعي الدعاية لما هو غير موجود، لكن ليس من طبعي كذلك نكران أو تبخيس ما هو موجود، وأن الزراعة عالم متشعب من أنواع المحاصيل والمزروعات المصنفة علميا حسب خصائصها إلى محاصيل حقلية كسائر أنواع الحبوب والقطاني أو البقوليات، والمحاصيل البستانية كالفواكه والخضروات، ومحاصل النباتات الطبية والعطرية ونباتات الزهور، ومحاصيل أو زراعات الأعلاف الخضراء وغيرها..

وما تكلمت عنه في المرة الماضية هو زراعة الخضروات فقط، خصوصا بعد إعلان الوزارة خلال فصل الصيف الماضي عن حملة صيفية لزراعة حاجة البلاد من الخضروات، ولم يفاجئني مصير تلك الحملة لأنني استبقته بتوضيح مسببات فشلها الحتمي، وإن كنت مرتاحا الآن (شيئما) لأنني سمعت أطر الوزارة ينتبهون ويتحدثون عن عامل المناخ كعامل أساسي من عوامل نجاح الزراعة والإنتاج، ويتحدثون عن أعالي النهر وعن الدلتا والمناطق الشاطئية.. فالأرض خلقها الخالق وقدر ووزع فيها أقواتها كل منطقة ونباتاتها وحيواناتها وكائناتها التي تتأقلم وتنمو وتتكاثر وتنتج فيها، لا بالصدفة، وإنما طبقا لخصائص بيئية ومناخية وطبيعية معينة من حرارة، ورطوبة، ورياح، ونوعية تربة، وعدد ساعات نهار، وطول موجات ضوئية، وعدد ساعات ظلام، وعدد ساعات قمر، ووجود أو عدم وجود حشرات وعوائل وكائنات حية دقيقة..

فما داموا اهتدوا وأخذوا هذه المعطيات المناخية في الحسبان، فلتكن إذن هذه هي الاستراتيجية أو “السنة” الثابتة المتبعة في زراعة الخضروات في بلادنا وطبقا لهذه المعطيات، أي موسم شتوي لزراعة الخضروات ابتداء من شهر نوفمبر حيث الظروف المناخية مواتية لزراعة جميع أنواع الخضروات وفي كافة مناطق البلاد حيثما توفرت المياه، وبانتهاء هذا الموسم الشتوي شهر إبريل يتحول الإهتمام ويبدأ الإستعداد لموسم صيفي لزراعة الخضروات بالشريط الساحلي على أراضي دلتا النهر في كرمسين، وأنجاكو، والزيره، وبرت، وفي المناطق الشاطئية الأخرى غرب تكنت، وآفطوط الساحلي، وفي نواكشوط، ونواذيبو حيث المناخ المعتدل وشبه المعتدل صيفا، لكن بشرط تجنب السباخ والأراضي الملحية.

وليس معنى هذا أن يبقى مزارعو أراضي أعالي النهر ومناطق البلد الأخرى، غير الشاطئية، التي تشتد  الحرارة فيها صيفا وترتفع نسبة الرطوبة خريفا ولا تكون ملائمة لزراعة الخضروات، ليس معنى ذلك أن يبقى مزارعوها مكتوفي الأيدي خلال هذا الموسم، بل إن هناك بعض أنواع الخضروات التي يمكنهم زراعتها صيفا كالقرع العسلي والبامية والباذنجان، وكذلك البطيخ والشمام (melon)، بالإضافة إلى المزروعات التقليدية المعروفة من حبوب وبقوليات، بل وأعلاف خضراء تكون الحاجة إليها ماسة والطلب عليها كبير والعائد منها معتبر خلال موسم الصيف، وذلك بدل “اتولتيم” زراعات حساسة كالخضروات في مواسم غير مواسمها وبيئات غير بيئاتها سينفق عليها أصحابها مالهم ووقتهم وجهدهم وسيخسرون، وأكثر وأخطر من ذلك سيصيبهم الإحباط ويهاجرون! ولكن لابد في كل المواسم والظروف والسياسات من الوصول قناعة ورسخوها، وهي أنه غالبا هناك بالإمكان أفضل مما هو كائن، وأن هناك طرق زراعية أفضل من أخرى، وهناك بذور أحسن من أخرى، وهناك استغلال للأراضي أحسن من آخر، وأنه لا زراعة منتجة مستديمة بدون احترام الفنيات الزراعية، ولا قيمة لإنتاج زراعي حتى ولو وصل إلى الإكتفاء والفائض بدون مراعاة للبيئة وسلامة وصحة المنتوج، إذ لا فرق بين الموت سوء تغذية وجوعا والموت بالمنتجات الغذائية الملوثة بالمبيدات والسموم، وإن مناط ذلك كله هو تولي الأمر أهله مواكبة وتأطيرا، على الأقل إن لم يكن رسما للسياسات ومتابعتها ميدانيا، وتنشيط البحث الزراعي، وتكثيف التجارب العلمية والدراسات.

كان ذلك عما قلته سابقا عن زراعة الخضروات، أما ما كنت أتحدث عنه أو “أسوقه” خلال السنوات الماضية مبرزا ما حصل فيه من تحسن وتطور وتوسع فهو زراعة الأرز، وكنت أتحدث عن مجال واكبته ميدانيا وكنت جزء منه ولصيقا به منذ بداية زراعة الأرز بالضفة بداية تسعينات القرن الماضي، وما صاحبه من إقبال الفاعلين الزراعيين على الإستثمار في القطاع، وإنشاء مؤسسة القرض الزراعي، والتسهيلات التي قدمتها الدولة آنذاك من دعم للأسمدة والوقود تشجيعا للمزارعين، وما نتج عن ذلك من “طفرة فقاعية” ما لبثت أن انفقعت بسبب هشاشة أسسها وغلبة الطابع السياسي، غير الفني الزراعي، على خططها ومقارباتها، فتحول القرض الزراعي إلى ديون في ظهور و”بطون” المزارعين، وأمسك البنك الدولي دعمه، ورفعت الدولة يدها عن القطاع، فعاد المزارعون الإنتهازيون لأعمالهم وأنشطتهم في الصيد والتجارة والعقارات، وبقي المزارعون الحقيقيون يضربون أخماسا بأسداس..! وهو ما يؤكد ما نقوله دائما من أن الزراعة ليست إنفاق أموال ودعما للمزارعين لا تواكبه سياسات ومواكبة ومتابعة وتقييم تُحول تلك الأموال وذلك الدعم إلى إنتاج، والتوقف والتساؤل والمساءلة وتحديد الخلل إذا تبين أن الدعم والإنفاق كانا هدرا لا إنتاجا.

أما كون زراعة الأرز شهدت تحسنا وقفزة خلال السنوات العشر الأخيرة فتلك حقيقة لا مراء فيها أموت عليها لا ضلالة وإنما يقينا وإيمانا بواقع، ولست أنا وحدي من تحدث عنها إذ يدرك ذلك المزارعون والفاعلون وأطر القطاع، ويؤكده الواقع على الأرض، فتوسع المساحات المستصلحة والمزروعة خلال هذه السنوات من 15 ألف هكتار سنويا إلى ما يزيد على 50 ألف هكتار سنويا، وتغطية الإنتاج لما بين 75% إلى 80% من استهلاك البلاد من الأرز، وتراجع واردات البلد منه من 168 ألف طن سنويا إلى 24 ألف طن سنويا سنة 2016 بعد رفع الدولة للرسوم على الأرز الأجنبي دعما للإنتاج المحلي، والتحسن الكبير في نوعية الأرز المحلي وإقبال المستهلكين عليه، وتضاعف عدد معامل تقشير الأرز من 3 معامل قبل هذه السنوات كانت تستقبل حاجتها المحدودة من الإنتاج ويبقى الباقي في المخازن دون تسويق، إلى أزيد من 30 معمل تقشير اليوم، إذ لن يستثمر فاعل مبلغ 150 مليون أوقية في إنشاء معمل للتقشير إلا إذا كان يرى مساحات مزروعة وإنتاجا لتغذية وتشغيل معمله، وهذه كلها مؤشرات ناطقة تُسوق نفسها بنفسها.

ولأننا تحدثنا عن “التخادع” بين وزارة التنمية الريفية والمزارعين، واغترار قادة البلد بتقارير ودعاية أطر القطاع وروبورتاجات التلفزيون الوطني عن “الثورة الزراعية” وشمامه الخضراء التي هم من يدفعون لمعديها، فإن ما تحقق في مجال زراعة الأرز خلال السنوات العشر الأخيرة ما كان ليتحقق لو كانت القيادة اعتمدت هذا الأسلوب وصدقت تلك المعطيات، لكن القائد هنا كان هو الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الذي كان هو الرئيس الوحيد الذي وقف بنفسه على كل شبر من أرض الوطن وكل منشأة من منشآته مزارعه، وقنواته، وسدوده، وواحاته، وحظائر حيوانته، ومدارسه، ومعاهده، ومحاظره، ومستشفياته، ونقاطه الصحية ومستوصفاته، وموانئه، ومطاراته، وآباره، ومحطات كهربائه، وشبكات مائه، ووحداته الإنتاجية، وقواعده العسكرية وثكناته..وقد كانت ولاية اترارزه كمركز لإنتاج الأرز هي أكثر ولاية تردد عليها خلال فترة حكمه إما للإشراف على إطلاق حملات زراعية، أو على انطلاق استصلاحات زراعية أو شق قنوات، وكان في كل زيارة يلتقي بالمزارعين والفاعلين مستمعا لما يطرحونه دون انخداع برؤاهم، أو انجرار واستجابة لما دأبوا على طرحه مما يدرك هو أنه لا يخدم القطاع بقدرما يخدمهم هم أنفسهم..

وردوده على مداخلاتهم في تلك اللقاءات مسجلة وموجودة، وقد سمعناه يقف لهم أمام قراره بتوقيف خطة تسويق الأرز التي أطلقها سنة 2013 دعما للمزارعين وتشجيعا لهم، والتي حولها أطر المقبورة “سونيمكس” بالتمالئ مع أطر الوزارة وأصحاب معامل التقشير إلى عملية هدر كبرى يتم بموجبها شراء الدولة للطوب والأرز الرديء بسعر الأرز الجيد، وأقام المزارعون الدنيا ولم يقعدوها بسبب إلغاء عملية التسويق تلك، لكنه ضرب لهم الطاولة في روصو، وقال لهم إن تلك العملية أصبحت من الماضي ولن تواصل الدولة فيها مهما كلف الثمن، داعيا إياهم لإنتاج الأرز الجيد وعندها لا حاجة لعملية تسويق لأن الإنتاج الجيد يسوق نفسه بنفسه، وسمعناه يقول لهم إن مشكلتهم التي لم يطرحوها قط ولم تطرحها الوزارة هي أنهم لا يمتلكون من معامل تقشير الأرز ما يكفي لتقشير ربع إنتاجهم وهو ما يخلق مشكلة التسويق، موجها وداعيا الفاعلين إلى الإستثمار في إقامة معامل التقشير، ونتج عن ذلك تضاعف عدد هذه المعامل عشرات المرات مما شكل حلا جذريا لمشكلة التسويق، حيث أصبح أصحاب معامل التقشير يتسابقون لشراء الأرز الخام، بل إن بعضهم أصبح يشتريه من المزارعين وهو لا يزال في الحقول.. وسمعناه يقول لهم إنه إذا كانت هناك دولة كانت تتغاضى عن أساليبهم مع القرض الزراعي فإنه هو لن يقبل ذلك‘ فإما أن يتحملوا مسؤولياتهم، ويساعدوا الدولة على مساعدتهم، أو أن الإستمرار في تلك الأساليب سينتهي ب “كذبه واكّفه” عليهم وعلى الدولة مستخدما نفس العبارة.. فأدرك المزارعون وأطر الوزارة أن الرجل يعي ويعني ما يقوله فتحققت تلك المكاسب بتلك الصرامة وعدم محاباة المزارعين على حساب المصلحة العامة والإنتاج الملموس.

إلا أن هذه المكاسب تعرضت لضربة قوية عندما خسرنا نصف إنتاجنا خلال الموسم الصيفي يوليو ـ أغسطس 2020، بسبب تلف نصف المساحات المزروعة بفعل الأمطار والنقص في آليات الحصاد، ومن طبيعة الزراعة والمواسم الزراعية أن أية مشاكل في أحد المواسم تلغي بظلالها وتداعياتها على الموسم الذي يليه.. وهكذا لم نخسر نصف إنتاجنا في الموسم الصيفي 2020 فحسب، بل إننا الآن في الطريق لخسارة ليس نصف الموسم الخريفي الحالي وإنما خسارة ثلاثة أرباعه، ولذلك لا تتفاجأوا إذا كان إنتاج الأرز هذه الموسم هزيلا أو معدوما، فالمساحات المزروعة متواضعة أصلا وقد تضافرت العديد من العوامل للتأثير عليها سلبيا، فخسارة المزارعين لإنتاجهم العام الماضي وانشغالهم بطلب التعويض من الدولة أخَّر انطلاقة الموسم الزراعي الحالي وبالتالي تناقصت المساحات المزروعة، وكذلك الفيضانات التي اجتاحت بعض المساحات حالت دون إعدادها وزراعتها، كما أن أغلب المساحات المزروعة اليوم لم تكن مزروعة بالطرق العادية التي تمر بإعداد التربة وحراثتها وبذرها، بل كانت ما يسميه المزارعون (repousse) حيث يتم إطلاق المياه في المساحات المحصودة حديثا لتنبت البذور المتناثرة من عملية الحصاد السابقة، وتستأنف نباتات الأرز التي لا تزال حية نموها من جديد، أي ما يُرف محليا ب (تانكره)، وهي عملية تسمى “البذر الكاذب” ولا يُعول عليها في الإنتاج لا من الناحية الكمية ولا من الناحية النوعية.

ضف إلى ذلك الآفات التي هاجمت المساحات هذا الموسم، والتي سمعتهم يسمونها بالآفات المستجدة، ويستنجدون في شأنها بخبراء منظمة “الفاو”، بينما هي في الحقيقة ليست آفات مستجدة، فليست سوى القوارض العائمة المعروفة والتي تظهر من موسم لآخر تسبح في أحواض الأرز وتقرض أوراقه، أما الآفة الأخرى التي ظهرت هذا الموسم أيضا فهي حشرة البقة الخضراء، وهي إحدى الحشرات الماصة المعروفة وقد ظهرت مرات خلال مواسم سابقة، حيث تختبئ نهارا في الفروع السفلية للنبات، وبحلول الظلام تصعد للأعلى وتهاجم النبات ماصة عصارته مسببة له تأخرا أو توقفا في النمو، فقط الطواقم الفنية للوزارة لم تكتشف هذه الآفات، أو اكتشفتها ولم تتصدى لها في الوقت المناسب. وهكذا نجد أن ال15 ألف هكتار التي كانت هي مجمل المساحات التي تُزرع سابقا، وضاعفناها ثلاث أو أربع مرات خلال السنوات العشر الأخيرة بكثير من العمل والموارد والجهود عدنا إليها اليوم خلال سنة واحدة، وهي ـ لعمري ـ انتكاسة ما كان لها أن تكون، وللزارعة عموما مشاكلها ومصاعبها التي لا تفارقها، ولكنني لا أبرئ ولا أعفي السياسة وربط الزراعة بالسياسة هنا حيال هذه الإنتكاسة، حيث تزامنت زراعة وحصاد الموسمين الأخيرين مع انتقال السلطة في البلاد، وتعلق الأفئدة والقلوب بتشكيل الحكومة ومن هو “المحظوظ” الذي سيدخلها، ومن هو “سيئ الحظ” الذي سيكون خارجها، وما تلى ذلك من انخراط وانشغال السلطة وأجهزتها في محاسبة وشيطنة ومحاكمة وتجريم العشرية الماضية والتنكر لمكتسباتها البارزة، فكان مان كان!

وقد سمعنا وزير التنمية الريفية يقول إن عهد ممارسة السياسة بالزراعة قد ولى وهذا جيد، لكن فلتبدإ الدولة في هذا الجانب بنفسها وإلا فستكون هي “ضاربة دف” ممارسة السياسة بالزراعة، ولن يلوم أحد المزارعين إذا رقصوا لها على إيقاعها خصوصا وأنهم، ما شاء الله، راقصون سياسيون بارعون..!

من موريتانيا الآن