صدر قبل أيام عن دار “cherche midi” لجاك لانغ رئيس معهد العالم العربي في باريس كتاب “اللغة العربية ـ كنز فرنسا” الذي يسلّط الضوء على المكانة المرموقة للغة الضاد باعتبارها لغة حضارة عظيمة وتصنّف كخامس أكثر اللغات استخداماً في العالم، حيث ينطق بها حوالي 430 مليون متحدث في ستين دولة، فضلاً عن كونها واحدة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة.
يؤكّد جاك لانغ أن كتابه الذي قام بتأليفه بالتعاون مع فيكتور سلامة، يسعى إلى استعادة اللغة العربية التي كانت إحدى لغات فرنسا لأكثر من 5 قرون، لكرامتها ومكانتها الهامة في التعليم العام وما بعده، والاعتراف بأهيتها من قبل جميع الشرائح الاجتماعية والثقافية والسياسية. إنه بيان عام يطالب بتدريس اللغة العربية في المدارس والجامعات، ومرافعة جادة تقف ضد العنصرية التي تواجهها هذه اللغة الجميلة.
دعونا نحتضن لغة فرنسا.. كنز هذا العالم
وبينما تدور حول اللغة العربية الكثير من الجدالات والنقاشات على المستويات الرسمية والبرلمانية الفرنسية، يعلو صوت لانغ في مقدمته “كفاحي من أجل اللغة العربية” بهدف ترسيخ الحقائق ومحاربة التلاعب الأيديولوجي والديماغوجي والشعبي الذي يطال هذه اللغة، مبيناً أن عنوان كتابه قد يكون مثيراً للجدل بالنسبة لبعض الذين يعرفون تاريخ هذه اللغة بشكل سيء، وفي الوقت نفسه هم لا يعرفون تاريخهم بشكل جيد.
بالإضافة إلى المقدمة يقسم لانغ كتابه إلى ثلاثة فصول هي: “العرب وفرنسا: من الاتحاد إلى الانفصال”، “اللغة العربية، هذه اللغة غير المعروفة”، و”ساعات وسعادة تدريس اللغة العربية” تليها خاتمة يخلص فيها إلى أن تطوير تدريس اللغة العربية ضمن نظام التعليم العام، هو الإصلاح الضروري الذي يتعيّن على الفرنسيين القيام به. قائلاً: “دعونا نحتضن لغة فرنسا.. كنز هذا العالم”.
ويتحدث لانغ عن اللغة العربية في جميع فصول الكتاب من منطلق علمي وأكاديمي، موضحاً أنها كانت مع بداية الألفية الثالثة على مستوى الحداثة. فقد استطاعت التعبير عن التحديات الثقافية والاقتصادية والجيوسياسية في عصرنا. وكانت وسيلة الشباب بشكل يومي للتعبير عن أحلامهم ومطالبهم. كذلك فإن الشخصيات العربية بارزة في المدونات والشبكات الاجتماعية. إنها لغة الكتّاب والشعراء والفنانين والمطربية. أسهمت وما زالت تسهم في خلق وتجديد العالم العربي.
ثم وبالعودة إلى الماضي، نجد أنها لغة مقدّسة أنزل بها القرآن، فضلاً عن امتلاكها قوة روحية وشاعرية مستمدة من التاريخ. هي لغة المسيحيين العرب، اليهود، والمسلمين. هي لغة الإمبراطوريات المتعاقبة والحضارات الإنسانية المتعددة. لقد تمّ إثراؤها عبر قرون من قبل شعوبها الذين أبدعوا في استخدامها.
أما بما يخصّ انتشارها في فرنسا، يوضح أنه ومنذ القرن السادس عشر أدرك فرانسوا إيير وغيوم بودي “سيد بيع الكتب” وهو وزير الثقافة في ذلك الوقت، أن إتقان اللغات الإنسانية مثل اليونانية أو اللاتينية لم يعد كافياً. إذ يجب تطوير محاولات أخرى من المعرفة، مثل العبرية للبحث التوراتي والعربية للفلسفة والعلوم. مع العلم أن اللغة الفرنسية قد تعرّضت للتهجين والاقتراض من لغات مختلفة منها العربية التي تمثّل المصدر الثالث بعد اللاتينية والإيطالية.
ولسبب وجيه، إذا كنا مدينون باختراع شخصيات حديثة لعلماء الرياضيات العرب، فإن الغرب مدين أيضاً للعالم العربي بإعادة اكتشاف النصوص العظيمة للفلسفة اليونانية على وجه الخصوص من خلال أعمال الترجمة المكثفة التي بدأت في القرن الثاني عشر. والنتيجة هي مساهمة فكرية استثنائية في الطب والفلسفة والجبر تغلغلت في جميع أنحاء العالم، وقد استمر هذا الحماس للغة والثقافات العربية في النمو، بما يتجاوز تطوراتنا السياسية والاجتماعية.
من جهة أخرى، وبالإضافة إلى توسيع المعارف والمدارك، كان تعلّم اللغة العربية في الغرب قديماً، يندرج في بعض الأحيان ضمن إطار فهم الخصم، وأحياناً كان من أجل معرفة الشريك الذي يعيش على الجانب الآخر من البحر المتوسط.
أحكام خاطئة حول اللغة العربية
اليوم تتجلى المشكلة الحقيقية لواقع اللغة العربية في فرنسا، في أن طالباً واحداً فقط من بين كل 1000 من الطلاب يدرس اللغة العربية في المدارس الابتدائية، وطالبين اثنين فقط من بين كل 1000 يدرسانها في الكلية على الرغم من أن الطلب عليها يتزايد يوماً بعد يوم وليس فقط من أبناء المهاجرين العرب.
وبالمقابل يتم تطوير مسارات التعليم بطريقة بدلاً من أن تساعد في جعل اللغة العربية إحدى لغات فرنسا، تراها تعزز التباعد الثقافي والوقوف ضدها. وهكذا اصبحت هذه اللغة هدفاً للهجمات المضادة. ويجب ألا ننسى أن الصحافة في فرنسا قد قابلت تدريس اللغة العربية ضمن المدارس الحكومية بكل شراسة، محاولةً قد الإمكان إبعادها وتنحيتها عن الساحة الثقافية والمعرفية في المجتمع الفرنسي.
يشير لانغ إلى أمور بغاية الأهمية تحدث يومياً، منها أن ينظر إلى أولياء الأمور الذين يرغبون بتعليم أولادهم اللغة العربية في فرنسا باستغراب واستنكار شديدين. لكن السؤال الواجب طرحه هنا: هل يثير طلب مماثل حول تعلم اللغة الصينية ردّ الفعل نفسه.. الجواب يقول: بالطبع لا..
وفي بعض الأحيان عندما يتم توفير دروس اللغة العربية في المدارس الابتدائية من قبل المسؤولين والمدراء، يرغب بعض الطلاب من أصول غير عربية بمشاركة زملائهم تعلّمها في الفصل، لكن وللأسف يوجد من يشجّع آباءهم على عدم الاستجابة لهم، متسلّحين بعدد كبير من الحجج والأفكار الخاطئة من أبرزها أن هذه الدورات أو الدروس مخصّصة فقط للطلاب الذين لديهم أصول تربية إسلامية في منازلهم. والرد الصريح والمنطقي لهؤلاء أنه مثلما أن غالبية المسلمين ليسوا عرباً، فإن اللغة والثقافات العربية لا يمكن اختصارها بالإسلام. أي: هل يجب أن تكون طالباً مسلماً للحصول على دروس حول قواعد وآليات النطق باللغة العربية؟
كما يحدث كثيراُ أن يتلقى مدراء ومسؤولو المدارس التي توفّر لطلابها خيار تعلّم اللغة العربية، مكالمات من أولياء أمور يسألون فيها عن مرجعية المدرسة: هل تتبع منهجاً دينياً؟ هل هي عربية؟ والكثير من الأسئلة المعبّرة عن جهل بعض الفئات باللغة العربية وتاريخها العريق.
حان الوقت لتستعيد العربية مكانتها
يشدّد لانغ في الكتاب على أنه يوجد حوالي 4 ملايين شخص يتحدثون اللغة العربية في فرنسا، ونحن وإذ نقف ضد تعليمها في المدارس الحكومية نضع أنفسنا في مأزق كبير وضمن مفارقة غريبة، فمنعها رسمياً يعزّز من فاعلية المؤسسات الدينية التي توفّر تدريسها لطالبيها، وبالتالي يصبح التعليم الديني المرجع الوحيد لتعليم اللغة العربية واحترافها.
ومن أجل تقديم اللغة العربية على حقيقتها أمام الفرنسيين، وتبرئتها من الاتهامات الملصقة عنوةً بها، يقوم معهد العالم العربي في باريس بالعديد من المبادرات التي من شأنها تقريب وجهات النظر ووضع النقاط على الحروف. نذكر على سبيل المثال أنه ومنذ العام 2016، ومن أجل إحياء ذكرى هجوم ضحايا Bataclan البغيض، ينظّم المعهد سنوياً ليلة من الشعر باتت تستقطب 5000 شخصاً معظمهم من الشباب الذين يسعون إلى الحوار والوحدة والوئام من خلال كلمات رقيقة وشاعرية باللغتين العربية والفرنسية.
ويقول: “إذا أردنا تصحيح واقع اللغة العربية في المجتمع الفرنسي بات من الضروري حالياً ضمان تدريسها وانتشارها بما يتماشى مع تراثها الاستثنائي. إننا برفضها اليوم نهدر كنزاً ثقافياً ولغوياً لا يقدّر بثمن”.
ثم يضيف: “أنا أكافح من اجل التعددية اللغوية في مدارسنا. وبالطبع اللغة الفرنسية هي العمود الفقري لنظامنا التعليمي ويجب أن نعتز بها، لكن هذا لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع معرفة أبنائنا للغات الأخرى. إنها معركة أخوضها من أجل الحفاظ على هاتين اللغتين الشقيقتين: الفرنسية والعربية، بدأتها سابقاً في وزارة التعليم وها أنا أواصلها في معهد العالم العربي الذي أرأسه. لقد حان الوقت لإعطاء اللغة العربية مكانتها في مدرسة الجمهورية”.
رضاب نهار لصحيفة الأندبندنت