طيلة 60 عاما التي انقضت على الاستقلال ، ظل التعليم ولا يزال الحصن المنيع للمجتمع ورافع تنميته ، ولقد ظل النظام المحظري الوحيد دون منافس في البلاد حتى دخول المستعمر مع بداية القرن العشرين حاملا معه المدرسة النظامية الحديثة في ثوبها الفرنسي ، إلا أنها جوبهت بمعارضة واسعة وقوية ، فلم تجد إقبالا يذكر ، فعمد المستعمر إزاء فشله لتأسيس مدرستين
ــ الأولى : مدارس فرنسية محضة لصالح من يتكلم غير العربية .
ــ الثانية : مدارس من نوع آخر تجمع بين التعليم الفرنسي والعربي التقليدي .
والمثير للغرابة أن هذه المدرسة الحديثة بنوعيها لم تقلى إقبالا لا في الضفة أو غيرها ، ومع إرهاصات الاستقلال وفي خضم الاستفتاء صدر مرسوم 1957 الذي اشفع بأول وزارة للتعليم لتنظيم التعليم العمومي حتى يتواءم ومتطلبات الاستقلال ، لقد عرفت بلادنا منذ استقلالها الداخلي 1958 العديد من الإصلاحات كالتالي :
1 ــ إصلاح 1959 : لا يعدو إصلاح 1959 محاولة لتنظيم الوضعية الإدارية للمؤسسات التعليمية الموجودة أنداك , أما الأهداف فلا تختلف عن أهداف الإجراء السابق الذي اتخذته الإدارة الفرنسية لتلميع مدرستها سنة 1947م ، وإحلال المدرسة الحديثة محل التقليدية ، وغاب عنه إحداث بعد المساواة أو تجاوز الفوارق.
2ــ إصلاح 1967 : أقره مؤتمر حزب الشعب سنة 1967م ، وتم تعيين لجنة وطنية لمراجعة البرامج القديمة الموروثة عن المستعمر ووضع إصلاح يتلاءم مع الواقع الحضاري للبلد ، وطبق بموجب القانون رقم 189-68 الصادر بتاريخ 1/6/1968م ، لقد كان هذا الإصلاح إصلاحا سياسيا ولغويا كسابقه ، وأثقل كاهل الإدارة ولم يمثل حلا .
3- إصلاح 1973 : أقره مؤتمر حزب الشعب سنة 1973م ، وطبق بموجب القرار رقم 533-75 الصادر بتاريخ 30/1/75 ، كان هدفه ملاءمة النظام المدرسي للحقائق الوطنية .
عموما شكل إصلاح 1973 منعطفا هاما في المسيرة التربوية ، وكان إصلاحا تربويا من حيث احتواءه على الخصوصيات النظرية للإصلاح التربوي: إذ اتسم بالشمولية ، وتضمن إشارة لضرورة ربط التعليم بمتطلبات التنمية ، كما أعتبر الخصوصية الثقافية للبلد عند رسم أهدافه حيث ينص في مقدمة أهدافه على: “خلق مواطنين متشبعين بروح الإسلام متمثلين قيمه السامية”، ونص على أن اللغة العربية لغة رسمية للبلاد وأن الفرنسية لغة أجنبية ، وتميز إصلاح 1973 عن سابقيه بكونه نحا نحو خيار الازدواجية بالنسبة للتعليم.
4- إصلاح 1979 : أحدث مسارين تعليميين متمايزين أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة الفرنسية ، وترتب عنه جعل اللغة العربية لغة الدراسة بالنسبة لأغلبية مراحل التعليم مع الإبقاء على الشعبة الفرنسية.
5- إصلاح 1999: أقرّه القانون رقم 012/99 بتاريخ 26/04/1999م ، وحاول – نظريا – معالجة النواقص التي ورث عن إصلاح 1979
وهدف إصلاح 1999 إلى توحيد النظام التربوي في شعبة واحدة مزدوجة، بعد أن كانت العملية التربوية تتم في شعبتين إحداهما تقدم الدروس بالعربية والثانية باللغة الفرنسية ، ومن إيجابيات هذا الإصلاح كونه وضع حدا لفصل مكونات الشعب الموريتاني. وعلاوة على هذا المنحى التوحيدي، فقد استهدف الإصلاح تكوين جيل مزدوج.
كان إصلاح 1999 إجراء سياسيا هدفه وإن لم يعلن تكريس الفرنسية على جميع مرافق الحياة ، كان إصلاحا مدمرا، فمعه بلغت المنظومة التربوية شأوا من الضعف والتهلهل لم يسبق له مثيل سواء من حيث التراجع الكبير في نسب النجاح وارتفاع نسب التسرب المدرسي وتدني مستويات المكونين , وكتابة البرامج وفق مقاربة لم توفر البيئة المناسبة لها ، وأدى لانتكاسة مجلجلة مدارس حرة لا تراعي لا البرامج الكفايات ولا حتى المنهاح أو الأهداف المتوخاة ، اختفاء المدرسة العمومية التي لم تعد موجودة بالأساس مهجورة إلا ممن لا مفر لهم منها ، فلم يؤدي إصلاح 1999 إلى الاندماج لا في سوق العمل ولا الاندماج المجتمعي بل ظل بعيدا عن التفاعل مع محيطه الاجتماعي والاقتصادي ، عاجزا عن خلق مواطن مثالي صالح بأي معيار .
على العموم : كل الإصلاحات التربوية لم تسترعي مطلقا إذابة الفوارق ولم تراعي ضرورة الوحدة بل انتجت مجتمعا متعدد الثقافات متقطع الأوصال، مشروخ الأواصر ، وافضت إلى حرمان أبناء الفئات الهشة من ولوج الحياة العامة من خلال إجراءات راح ضحاياها سوادهم الأعظم لم تبن على أسس تربوية علمية ثابتة بل كانت بطرق استعجالية ارتجالية ، ولم تأخذ أيا من الخطط التربوية مداها الزمني فكلما وصلت الترتيبات للثلث جاءت السلطات بإجراءات سمتها إصلاحات ، و كانت باهظة الثمن والتكاليف ضعيفة المردودية والكارثة أن 50 % من المدارس يعاني عجزا في التجهيزات والبنية الأساسية المدرسية ، الكتب اليوم لا تتوفر منها إلا 25% ، نسبة الالتحاق لا تصل 100% تقريبا في حدود 80% ، 40% لا يكملون الابتدائية ويتسربون ومعظمهم من الفئات الهشة ، 45% فقط من التلاميذ بالمدارس الفنية يستفيدون من سوق العمل .
إذن المتتبع لمجمل الإصلاحات التربوية يدرك دون عناء احتوائها اختلالات جوهرية تتجلى بوضوح في النواحي المتعقلة بالهوية والشخصية الحضارية والأخطاء والنواقص المنهجية والتربوية الكثيرة ، إذ أبقت على القواعد التي بنى عليها المستعمر سياسته التعليمية في موريتانيا ولم تحد عنها رغم الاختلاف الشكلي مكرسة إبعاد اللغة العربية والمدرسة التقليدية ( المحظرة ) ، مسكونة بضرورة ترسيخ اللغة الفرنسية .